الاثنين، 15 فبراير 2010

فالنتاين إسلامي


اعتبرها من نعم الله أني أرتاد المنتديات الإسلامية وأعيش في مجتمع بعيد نوعاً ما عن تتبع موضات وصيحات الغرب، لأرتاح من قرف العادات الغربية التي يبرع البعض بتبنيها، هاجرين ما هو مفيد من الغرب وتاركين قيم مجتمعهم ودينهم.

وفي مثل هكذا أجواء آخر ما أتمنى رؤيته إعلانات الفالنتاين وعيد الحب، وقصص عيد الحب، وشو بدك تعمل في عيد الحب، وكل حب وأنت بخير، ورؤية الألوان الحمراء الفاقع لونها، لكن مع ذلك تطاردني هذه الألوان، وأنا لا أحب الأحمر الفاقع (خلقة)، والحجة؟ سيل من الفتاوى تحرم عيد الحب.

طيب ولماذا نشرها في المنتديات الإسلامية؟ هل رأينا هذه المنتديات تحتفل بعيد الحب لنقول لروادها هذا حرام ولا يجوز؟ هل رأينا رواد المساجد يحملون الورود الحمراء ليهدوها لصديقاتهم لنوزع النشرات داخل المساجد؟ من اسمه واضح أنه عيد بعيد عن الروح الإسلامية، ويكفي من العلماء أن يقولوا هو تشبه بالكفار وميوعة، ولا أعلم لماذا نرى الأدلة الطويلة العريضة للتدليل على حرمته؟ هل انتهى عمل الدعاة ولم يبق إلا الفالنتاين لنطارده؟ أو كما قال لي أحد البسطاء وهو يقرأ أحد النشرات التي وزعت (وقد تلونت باللون الأحمر والورود): "وفي هذا اليوم يحرم التهادي ويحرم التهنئة ويحرم اللباس المخصص ويحرم .... ويحرم) فقال: "لماذا لا يقولون هو يوم عادي مثل باقي الأيام وانتهى". بعض النشرات أحس وكأنها تشرح للناس كيفية تخصيب اليورانيوم.

إذا كانت هذه الحملة الإعلامية موجهة لأبناء الإسلام الملتزمين، فهي في غير مكانها، فهم على الأغلب منتبهين لحرمتها أو على الأقل يترفعون عنها، وكان يكفي بالإشارة العابرة وتذكير بسيط، وإذا كانت موجهة لغير الملتزمين فهي أيضاً لم تحسن الاختيار، فغير الملتزم لا يهمه رأي الشرع، وإذا قلت له هذا حرام سيقول لك (so what)، إذن الأحرى والأجدر بالدعاة أن يوجهوا خطابهم لاستقطاب هؤلاء الناس إلى المساجد وتعليمهم الالتزام الديني أولاً، وبعدها يأتي تحريم عيد الحب بشكل تلقائي وتحصيل حاصل.

أحياناً كثيرة يوسوس الشيطان لي ويقول هؤلاء القوم يغارون من المحتفلين بعيد الحب، ويريدون ذريعة ليشاركوا بطريقتهم، ولا أعلم حقيقة لما الاهتمام المبالغ به، ولماذا تبدد الجهود والطاقات لمخاطبة أبناء المنتديات الاسلامية ورواد المساجد وإقناعهم بحرمة هذا العيد، ما الحكمة؟ هنالك جماعات دينية لا تجرؤ على التدخل في السياسة فتلهي نفسها في سفاسف الأمور، لكن يمكنها الابتعاد عن السياسة ودعوة الناس دون الانحدار لهذه القصص والصغائر.

لو كان عيد الحب من الأمور التي التبس حكمها على الشباب المسلم لقلنا وجب شرحها، مثلما هو الحال مع الربح الهرمي وشركات كويست وبزناس، التي انتشرت في بعض المجتمعات الإسلامية، وخلط الحلال والحرام، بحيث كان صعباً على الكثير تمييز الحرمة فيها وأنها تشتمل على غرر وأكل لأموال الناس بالباطل، لكان ضرورياً وقتها توجيه حملة إعلامية لتوضيح الحرمة الكامنة فيها، وتبيان وجوه الحرمة، لكن عندما نأت لقضية تكاد تكون من البديهيات فيجب أن نقف ونتساءل، ويجب أن نلفت الانتباه إلى ضرورة الانشغال بما هو أكثر أهمية فالأقل ثم الأقل. وهناك الكثر من الأولويات المقدمة على عيد الحب أو الفالنتاين (كما يسميه الخواجات).

هنالك طوفان من النشرات والمواعظ والتذكير بحرمة هذا العيد، لم استفد من الابتعاد عن البيئة الغربية، وكأنني أعيش أجواء فالنتاين لكن بنكهة إسلامية.

حقيقة الفضيحة

فجأة وفي يوم وليلة اكتشف أكثر الناس أن هنالك فساد في رأس هرم السلطة وفي مؤسسة الرئاسة تحديداً، وكأن ما سمعناه ورأيناه وما ثبت عنها لم يكن كافياً، وفقط كانت صور رجل عجوز عار من ملابسه أيقظت كل هذا الورع لدى الناس، أما عري المواقف والمبادئ فلا تهم الناس وليست ذات صلة.

أريد أن أتوجه بكلماتي إلى صنفين من الناس، وهنالك صنف ثالث سأخاطبه في النهاية، فهذه الأصناف تؤرخ لتاريخ فلسطين بما قبل الحسيني وما بعد الحسيني، الصنف الأول: أولئك الناس الذين يعتبرون أن السياسة تياسة ولا يهتمون بالشأن العام ويعتبرون أنهم أكثر حكمة وذكاء من الانحدار لعالم السياسة ويتعالون عن الخوض في تفاهات فتح وحماس، والصنف الآخر الطفيليات السياسية التي تعيش على تصيد الأخطاء والعثرات، أصحاب شعار "إذا عثرت بغلة في العراق فحماس وفتح تتقاسمان المسؤولية لأننا نحن الصح وما دوننا باطل".

لا أعلم سبب فرحكم بفضيحة السلطة فرحاً لم يفرحه ضحاياها والذين عانوا الويلات منها؟ كما لا أفهم أين كنتم من فضائح السلطة السابقة، أليس قتل هيثم عمرو فضيحة؟ أليس قتل محمد الحاج فضيحة؟ أليس تسليم خلية صوريف للاحتلال فضيحة؟ أليس تسليم مقاومي القسام وابطال العمليات الاستشهادية في القدس وتل أبيب في سجن بيتونيا إلى الاحتلال فضيحة؟ أليس تأجيل تقرير غولدستون فضيحة؟

طيب تريدون الابتعاد عن حماس والتعالي عن إثم الانقسام وتلويث ألسنتكم به، أليس قتل محمود الجميل وثقب أيديه وأرجله بالدريل فضيحة؟ محمود الجميل لم يكن حمساوياً في حياته وكان فتحاوياً أباً عن جد، وقتلته من أجهزة السلطة معروفين ويصولون ويجولون بدون حساب، ومرت على قضيته سنوات دون حساب أو محاسبة؟ أليس إفلات القتلة من الحساب فضيحة بحد ذاتها؟

فضيحة الحسيني ليست قصة فضائح على الصفحات الخلفية للصحف اليومية نتسلى بها، ما حصل هو فضيحة وعار بحق الشعب الفلسطيني، ويجب أن يحاسب الكل ابتداء من اللصوص والساقطين أخلاقياً مروراً بمن صور الرذيلة ووثقها على أشرطة فيديو ووزعها على أنحاء العالم، وانتهاء بمن علم بهذه الفضائح قبل أكثر من عام وأصر على دفن رأسه بالرمال كالنعامة، وما زال ينكر ويدعي أنه مؤامرة من الاحتلال ضده.

لا يوجد ما يفرح في الفضيحة، لقد تمت إهانة الشعب الفلسطيني على يد الحسيني وعلى يد من صوره ونشر صوره وعلى يد من تستر عليه طوال هذه المدة، فقصة الشريط معروفة منذ أكثر من عام، ولم نجد علاجاً لها سوى الإنكار من عصابة الرئاسة الذين يبدو أنهم نسوا أن من تربى في أحضان أجهزتهم الأمنية يملك مستوى أخلاقي متدني لدرجة تسمح له بعرض أعراض الناس على شاشات الفضائيات ليكون الشعب الفلسطيني عرضة لألسنة العالمين.

وأما متابعي سبيس تون من الطفيليات السياسية فما زالوا يبحثون عن الرابط الذي يربط "تعثر الحسيني في العراق" وحركة حماس، وأكيد ساءهم ترفع الحركة عن الخوض في الأمر، وحاول البعض أن يتهمها بالتستر على الفساد لأنها رفضت عرض شريطاً يظهر عورات الناس على فضائيتها، حسناً يوجد فرق بين التستر على عورة الرجال والتستر على الفساد، لكن عندما تكون العقول بحجم أشرطة الفيديو فمن الصعب أن تستوعب الفروق.

وهنا نصل إلى الصنف الثالث فهم بعض مؤيدي حماس ممن يمكن أن نطلق عليهم حماس موديل 2020، لم يتربوا في المساجد ولم يدخلوا سجون الاحتلال أو سجون دايتون ولم يعرفوا حماس إلا من خلال شاشات الفضائيات، وليثبتوا ولاءهم تجدهم "حمساويين" أكثر من حماس، يعتقدون أنفسهم أفهم وأعلم وأكثر حرصاً من قيادة حركتهم.

لسنا مع عبادة القادة والأشخاص، ونحن مع من قال: "إذا رأينا فيك إعوجاجاً قومناك بحد السيف"، لكن المصيبة والطامة أن نقول لقادة حماس عندما يتخذوا قراراً بمنع عرض الفضائح على فضائية الأقصى لقد أسأتم وأخطأتم وأنكم لا تفهمون بالسياسة ولا الدعوة ولا الفقة.

ما حصل هو خلاف بين السلطة جناح فياض وجناح عباس، يقتتلان ويفضحان بعضهما البعض، وما شأن حماس لتزج نفسها في تصفية الحسابات هذه؟ حماس مشروعها أكبر من عورة فلان أو شتمه لعرفات أو أبي مازن، حماس لديها معايير شرعية تلتزم بها ولا تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، حماس بح صوتها وهي تقول الفساد الفساد، وهي تقول أحذروا التنسيق الأمني، لم يصدقها الناس وقالوا هو الكرسي وهو السلطان وهو شهوة السلطة، وهي المكيدة لحركة فتح، فإن كان عقول بعض الناس بحجم شريط الفيديو فليتفاهموا مع خبير الفيديو شبانة، ولنر كيف سيعيدوا الحق المسلوب.

يا سيد محمود عباس: هل يجب أن نرى كل الأشرطة؟

اليوم قرر السيد محمود عباس وهو في جولته بالهند الشقيقة أعفاء رفيق الحسيني من منصبه، وتشكيل لجنة للتحقيق في الموضوع (لم أفهم هل المطلوب التحقيق في ما عمله الحسيني وإن كان لائقاً أم لا؟ أم للتأكد من أن الفيلم لم يكن مدبلجاً؟ أم لكي يعرف كيف تسرب الشريط للصحافة الصهيونية ؟).

طيب يا حبيبي يا أبو مازن. بدنا نفهم: هل إعفاء الحسيني عقوبة له؟ وإذا كانت عقوبة فعلى ماذا عاقبته؟ هل لأنه انكشف وفضح وأصبحت سيرته وسيرة السلطة على كل لسان؟ إذا كان كذلك يجب عليك أن تستعد لطرد آخرين، لأنه يبدو أن المحيطين بك ليسوا من الحصافة والفطنة والذكاء ليخفوا جرائمهم ويعموا أبصار العالم عنها. أم أنها عقوبة على ما فعله الحسيني وتسليماً بما اتهمه به شبانة وإذعاناً لتهديدات شبانة؟ إذا كان كذلك لماذا لم تقله منذ أكثر من عام؟ عندما خرج من خرج على الإعلام ولمح إلى القصة، بل وصل البعض إلى أن يصرح باسم الحسيني ذاته، لماذا الانتظار حتى نرى جميعنا الشريط؟

صدقني يا أبا مازن ليس هكذا تورد الأبل، فهل من الضروري أن نرى شريط كل مسؤول حتى تقرر عزله؟ بالعامية "لازم ننفضح" على رؤوس الأشاهد وتتحول قناوتنا واعلامنا ليكون اعلام فضائحي وأن يصاب الجميع بالقرف والاشمئزاز وهو يتابع هذه الفضائح ببث حي ومباشر؟ "ما إحنا عارفين البير وغطاه" أعزل أكثرهم فساداً (ما بدنا تعزل كل الفسادين مش راح يظل حد بعدين)، وأعزل من تأكدت من وجود أشرطة له، حتى تعفينا من رؤيته، يكفينا رفيق حسيني واحد، الله يرضى عليك.

إلى متى تدفن رأسك في الرمال؟ من خطأ إلى خطأ وأنت تصر أن كل شيء على ما يرام، وكل مرة نفس الأخطاء، تقرير غولدستون طلبتم تأجيله وبعد ما فضحتم دافعتم عن القرار وفي النهاية اضطررتم للتراجع عنه، واليوم يتكرر الخطأ وبنفس السيناريو، تجاهل ثم انكار ثم إقرار. ونصيحة لوجه الله تعالى لا تسمح لنمر حماد أن يخرج على الجزيرة ليدافع عنك وعن السلطة، لأنه بدل أن يبيض صفحتكم يزيد الأمور سوءاً. السكوت في مثل هذه الفضائح فضيلة، صدقني هذه نصائح صحيح أنها مجانية لكنها ذهبية، وأثمن من كل الأموال التي اتهمكم شبانة بسرقتها.

لا نريد أن تصالح حماس، ولا أن توقف الاستيطان، ولا أن ترجع يافا واللد، ولا أن تقيم الدولة الموعودة، كلها أمور قطعنا منك الأمل أن تعمل شيئاً لها، فقط نريد منك أن تعفينا من مشاهدة المزيد من الأشرطة، وأن تستر على أبناء وبنات الناس، فإن كانوا فاسدين و"مش سائلين"، فلهم أولاد وأقارب وأهل، وهذه الفضائح ستلوثهم جميعاً، وستلوث مجتمعاتنا وقيمنا الأخلاقية، هذا أقل ما يمكنك فعله حتى نقول أنه كان لك حسنات عندما تغادرنا وتغادر منصب الرئاسة، حتى أذكرها وأدافع عنك وأقول: "الله يرحمك يا أبو مازن كان لك بعض الحسنات".

الثلاثاء، 9 فبراير 2010

الفيسبوك حرام!!

نشرت صحيفة الراية القطرية خبراً عن فتوى أصدرتها لجنة الفتوى بالأزهر تحرم الدخول على موقع الفيسبوك وتعتبر زائريه آثمين شرعاً، وذلك بناءً على دراسة أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وثار جدل ولغط كبير حول الفتوى في الإعلام خلال الأيام الأخيرة.

عضو مجمع البحوث في الأزهر عبد المعطي بيومي نفى أن تكون الفتوى صادرة عن لجنة الفتوى، ناسباً إياها إلى رئيس اللجنة السابق عبد الحميد الأطرش، والذي نفى بدوره لاحقاً أن يكون قد قال هذا الكلام، مؤكداً على أن كلامه أسيء فهمه، وسواء كانت صادرة عن لجنة الفتوى نفسها أم عن رئيسها السابق، فإنها اعتمدت على دراسة أعدها مركز حكومي تابع للنظام المصري، وجاءت على أثر سلسلة فتاوى مسيسة أشهرها فتوى الأزهر التي اعتبرت الجدار على الحدود بين مصر ورفح "حلال"، مما أثار الدوافع حول هذه "الفتوى" والتي تكلمت فقط عن خطر الفيسبوك دون غيره.

واستهداف الفيسبوك بالذات ليس مستغرباً نظراً لما يمثله من إزعاج للنظام المصري، حيث بات مكاناً لتجمع معارضي النظام ولنشر المقالات والصور المناهضة له، بل ولتنسيق نشاطات المعارضة مثلما فعلت مجموعة 6 أبريل، وإن كان صاحب الفتوى "مجهول" في ظل تنصل الجميع منها، فإن البحث الذي أعده مركز البحوث يعبر بشكل أو آخر عن رغبات النظام، وقد دارت بالفعل قبل فترة مداولات ونقاشات في الأوساط السياسية المصرية حول حظر الفيسبوك وكان الكلام وقتها صريحاً حول ما يمثله الموقع من إزعاج للنظام.

وفي تاريخنا الإسلامي الكثير من الحالات والتجارب التي شهدت تدخل الدولة في الفتوى والمؤسسات الدينية لفرض توجهات معينة أو لتحقيق مآرب خاصة، ابتداء من محنة الإمام أحمد ومحاولة المأمون ومن بعده المعتصم والواثق فرض مذهب الاعتزال بالقوة، وليس انتهاء بالأنظمة العلمانية في تركيا وتونس التي لم تتردد يوماً عن التدخل في الشؤون الدينية لتمرير مفاهيمها العلمانية مثل ما فعل أتاتورك عند منع الأذان باللغة العربية وحظر الحجاب، أو مثلما فعل النظام التونسي عندما منع الحجاب وصادر الدمية "فلة" لأنها محجبة، وفي هذه الحالات وجدنا النظام العلماني يوظف "مفتين" يبررون خطوات النظام من ناحية إسلامية ودينية.

لكن شهدنا مؤخراً تدخلاً فجاً للدولة لاستحضار فتاوى ليس في سبيل فرض مذهب فقهي أو عقائدي، وليس في سبيل فرض تصورات أيديولوجية أو اجتماعية معينة، بل من أجل مكاسب سياسية مؤقتة، في يمكن اعتباره ردات فعل على أزمات النظام، وردات فعل غير مدروسة، فكانت فتوى الأزهر التي أباحت الجدار، وكانت محاولة أوقاف سلطة رام الله فرض خطبة موحدة على خطباء الجمعة تهجو القرضاوي وتهاجمه ثأراً لما قيل أنها إهانة وجهها لمحمود عباس. فكانت الخطوتين أداة لتلويث سمعة الأزهر وسمعة أئمة المساجد الذين التزموا بقرار السلطة.

إلا أنه في حالة الفيسبوك الوضع مختلف قليلاً، فللمواقع الاجتماعية على الانترنت وجهها السيء، كما لها وجهها الحسن، لكن لا يوجد عاقل يذهب إلى ما ذهبت إليه الفتوى ويقول: "دخول الفيسبوك حرام ومن يدخله فهو آثم." ويبدو أن السلطات تريد الدخول من الوجه السيء للفيسبوك، حتى تسوق ما تريده دون أن تعلن ذلك أو تجاهر به.

لذا تحرض الدولة جهةٍ مل مثل مركز البحوث القومية لتصدر هذه الأبحاث المضحكة التي جزمت أن 20% من حالات الطلاق في مصر سببها الفيسبوك تحديداً (دون غيره من وسائل التواصل الالكتروني)، والتي لم تقارن لنا نسب الطلاق قبل ظهور الفيسبوك وبعد ظهوره، فالطلاق ظاهرة قديمة، وإذا أردنا أن نتكلم عن أثر الفيسبوك فيجب أن نقارن قبل وبعد الفايسبوك ونربطها بعوامل مثل النمو السكاني وغيره.

كما تعمل أجهزة الإعلام الحكومية على شيطنة الفيسبوك، مثلما حصل تماماً مع جدار رفح الفولاذي عندما بدأت تتكلم عن تهريب المخدرات وتهريب البشر، وهي أمور تتم حقيقة لكن ليس على الحدود مع رفح، بل على الحدود بين الكيان الصهيوني ومصر، وعلى نفس النسق يدور الكلام عن الفيسبوك حول آثاره الاجتماعية السيئة، في حين أن ما هو مستهدف هي قدرات الفيسبوك السياسية على إرباك النظام وازعاجه.

تعتبر وسائل الاتصال عبر الانترنت من مواقع اجتماعية أو منتديات أو المدونات أو حتى البريد الالكتروني، والمواقع مثل فيسبوك وتويتر أدوات بيد المعارضة في البلدان التي لا يتاح فيها التعبير الحر عن الرأي وهي تمثل تهديداً على المدى الطويل على هذه الأنظمة، نظراً لقدرتها على الحشد الهائل، وقد رأينا كيف استخدمتها المعارضة الإيرانية في تنظيم المظاهرات عقب الانتخابات الرئاسية وإيصال صوتها للعالم الخارجي.

ربما يحد من قوة هذه المواقع قلة انتشار الانترنت بين الناس، والصغر النسبي لأعمار رواد هذه المواقع، لكن مع نزول أسعار الاتصال بالانترنت، ومع مرور الوقت فإن الأجيال الصغير عمرياً اليوم ستصبح كبيرة، وصاحبة قوة ونفوذ في المجتمع، سيكون للانترنت انتشاراً أوسع في المجتمع ليشمل جميع الطبقات الاقتصادية والمراحل العمرية، وعندها يجب أن تقلق الأنظمة المستبدة.

إذا أردنا أن نعرف ما يقلق النظام المصري فيجب أن نتابع فتاوى الأزهر، وما دام الفيسبوك يقلق النظام، فهذا يعني أنه وسيلة فعالة وعلى المعارضة وعلى أحرار العالم العربي والإسلامي استخدام هذه المنابر في عملية التغيير داخل مجتمعاتهم وفي إيصال رسائل إيجابية وبناءة بدلاً من تركها منابر مستباحة لتضييع الأوقات والدردشة بلا طائل.

أما النظام المصري فأنصحه بأن لا يكتفي بتحريم الفيسبوك لأن هنالك ماي سبيس وتويتر وآلاف المنتديات والمدونات، من الأفضل له استصدار فتوى تحرم الانترنت من أصله، كما أنصحه بقطع الانترنت عن المواطنين، قبل أن يأتي يوم يكون الانترنت فيه من أساسيات الحياة، وعندها لن يستطيع قطعه أو تحريمه.

الأحد، 7 فبراير 2010

ما لم يتداوله الإعلام بخصوص رد الحكومة في غزة على تقرير غولدستون

تناقلت وسائل الإعلام خبر اعتذار حركة حماس عن مقتل صهاينة في حرب غزة العام الماضي، مستدلة بعبارات وردت في رد حكومة غزة على تقرير غولدستون، متجاهلة أكثر من 81 صفحة مليئة بالأدلة التي تدين الكيان الصهيوني وتوثق جرائمه، وبدلاً من استغلال هذه الفرصة لفضح الكيان الصهيوني والتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني، فضلت بعض الأطراف تصفية الحسابات مع حركة حماس، وتصيد جمل وردت في التقرير بدلاً من تصفية الحسابات مع العدو الحقيقي والوحيد للشعب الفلسطيني.

وحتى نكون على بينة وإطلاع فيما يخص هذه المزاعم (والتي تضر حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وليست مجرد نقاط سياسية يسجلها خصوم حماس عليها) قمت بمراجعة الوثيقة والتي نشرتها صحيفة الرسالة، وهي مكونة من 81 صفحة، منها صفحتين فقط اختصت بالجزء الخاص بتفنيد الاتهامات التي وجهها تقرير جولدستون بحق المقاومة وفيه وردت الجمل المثيرة للجدل، نعرض فيما يلي هذا الجزء لنعلق عليه لاحقاً:


رابعاً: توضيحات من الحكومة الفلسطينية تتعلق بالادعاءات المحددة عن هجمات من داخل قطاع غزة موجهة ضد مدنيين وأهداف مدنية:

1. إننا في الحكومة الفلسطينية في غزة نؤكد موقفنا الثابت بضرورة تجنب المدنيين والمؤسسات المدنية أعمال المقاومة، وإننا نوضح موقفنا الثابت هذا والمستمد من الشريعة الإسلامية. إضافة إلى احترامنا للقانون الدولي وقواعده التي تحمي المدنيين في زمن الحروب وفي ظل الاحتلال، إننا نوضح ونؤكد موقفنا هذا دائماً لفصائل المقاومة الفلسطينية.

2. إن فصائل المقاومة عادة ما تلتزم بمبدأ حماية المدنيين وعدم استهدافهم. وقد قدم الشيخ أحمد ياسين، وغيره من القادة بعده، مقترحات معلنة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي لحماية المدنيين وتجنيبهم الأعمال القتالية، غير أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تلتزم (بمبدأ حماية المدنيين) ولم ترد بالإيجاب على مقترحات قادة المقاومة. والعدوان الأخير على غزة في ديسمبر ويناير 2008-2009 خير شاهد على استهداف المدنيين وتعمد فتلهم، والإحصاءات ذات الدلالة مذكورة في تقرير جولدستون.

3. إننا في الحكومة الفلسطينية في غزة نؤكد على تمسكنا بمبادئ القانون الدولي في موضوع حماية المدنيين ونطالب المؤسسات الدولية بإلزام (إسرائيل) بالاحترام والالتزام نفسه.

4. إنه في إطار ممارسة فصائل المقاومة لحقها المشروع في مقاومة المحتل للأرض والمقدسات، وفق قواعد القانون الدولي، فإنها تلتزم بالقانون الإنساني الدولي والأخلاق في أعمال المقاومة، كما أنها تجتهد ما وسعها الاجتهاد لعدم تعريض المدنيين للخطر. ولكن ليكن معلوماً أن المقاومة الفلسطينية برغم من أنها منظمة مقاومة، فهي ليست جيشاً منظماً يملك أسلحة متطورة تقنية؛ فقد تستهدف المقاومة موقعاً عسكرياً أو مربض مدفعية، فتنحرف النار قليلاً أو كثيراً وتقع بالقرب من موقع مدني رغم الاجتهاد الكبير لعدم وقوع إصابات في المدنيين، ونؤكد أن المقاومة لا تستهدف المواقع المدنية عن عمد وقصد، وأنها تعالج ما يقع بطريق الخطأ.

5. أن المدنيين على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لهم حرمة، وهم أولى الفئات المحمية تاريخياً في القانون الإنساني الدولي. غير أن ما أصاب المدنيين في (إسرائيل) ليس مقصوداً من جانب المقاومة لأن استمرار إطلاق الصواريخ كان تحدياً سياسياً للعدوان الإسرائيلي الذي زعم أنه يهدف إلى وقف إطلاق الصواريخ. من ناحية أخرى فإن الحالة المتواضعة لصواريخ المقاومة الفلسطينية تجعل الفرق واضحاً وحاسماً بين مبدأ إطلاقها كمقاومة كما تفعل كل الأطراف الضعيفة كرد فعل تلقائي على المعتدي الباطش، وبين التحكم في نتائج إطلاقها نظراً لافتقارها الكامل إلى القدرات الفنية، ولذلك فإننا نأسف لما قد يكون قد أصاب أي مدني إسرائيلي ونأمل أن يتفهم المدنيون الإسرائيليون أن الاستهداف المستمر لنا من جانب حكومتهم هو الأساس ونقطة البداية وليس إطلاق الصواريخ إلا رد فعل محدود ومتواضع، ولكنه يحمل رسالة صارمة بأنه رغم ضعفنا المادي فإننا مصممون على إزالة الاحتلال والدفاع ضد العدوان بكل ما نملك وهو أمر مشروع تماماً في القانون الدولي.

6. نؤكد على ضرورة توجيه الجهد الدولي إلى وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وفتح المعابر وفك الحصار، لأن إغلاق المعابر يعني استمرار نية الإبادة وتعطيل قرارات المجتمع الدولي بإعادة أعمار غزة، ونؤكد على ضرورة الضغط على الجانبين الإسرائيلي والمصري لهذا الغرض، ولا يجوز مطلقاً التذرع بذرائع سياسية للاستمرار في إبادة السكان فنحن نضع هذه المسئولية في عنق مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

7. نؤكد على أن (إسرائيل) المدججة بكل أنواع الأسلحة والتي تعمل منذ قيامها على إبادة الشعب الفلسطيني، تستفز المجتمع الدولي إلى الوقوف ضدها وحماية الشعب الفلسطيني الأعزل من البطش الإسرائيلي وأن تجويع القطاع وإبادته منذ حوالي أربع سنوات يتم دون تحرك جدي من جانب المجتمع الدولي الذي يبدو أنه ينتصر للقوي ويغفل عن الضعيف. ولذلك فإننا مرة أخرى نضع هذه المسؤولية أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

نحاول فيما يلي إجمال أهم الملاحظات على ما أورده هذا الجزء من التقرير:

أولاً: بعيداً عن تصيد الكلمات والتنقيب عن كلمة هنا أو كلمة هناك، كل ما ذكر كان في معرض الدفاع عن المقاومة، والدفاع عن أعمالها، ولا يوجد أي كلمة واحدة تتكلم عن تغيير مستقبلي في أعمال المقاومة (وهو ما يهمنا) أن تستمر المقاومة بسياستها بدون تغيير. بل وأكثر من ذلك قال أحد مسؤولي الحركة تعقيباً على مزاعم الاعتذار في تصريح لوكالة رويترز: "لا يوجد تغيير في سياسة الحركة وهذا يتضمن موقفنا من العمليات الاستشهادية."

ثانياً: في البند الثاني هنالك إشارة إلى عرض الشيخ أحمد ياسين في الانتفاضة الأولى بتجنيب المدنيين من الجانبين العمليات وأن تكون فقط رجال المقاومة في مواجهة جيش الاحتلال. والتقرير أكد على أن الذي رفض هو الاحتلال. يومها رد رئيس الوزراء الصهيوني اسحق رابين على ذلك العرض في أيامها بقوله: (لا نقبل عرضاً يتضمن المساس بجنود جيش الدفاع).

ثالثاً: بالرغم من أن هذا الجزء مكرس للدفاع عن المقاومة وتبرير أعمالها، إلا أننا نلاحظ أن الفقرات رقم 3 و6 و7 مكرسة لإدانة الاحتلال ولا تتكلم عن المقاومة بشيء.

رابعاً: الفقرة الرابعة واضحة الدلالات - صواريخ المقاومة غير متطورة والمقاومة ليست جيشاً نظامياً، وبالتالي يفهم منها أن استهداف ما يسمى بالمدنيين الصهاينة لن يتوقف إلا بعد أن تمتلك المقاومة صواريخ متطورة وجيشاً نظامياً متطوراً. وإذا وصلنا لهذه المرحلة من تطور الوسائل القتالية للمقاومة فهذا معناه أن أيام الكيان الصهيوني ستكون معدودة.

خامساً: الفقرة الخامسة، وهي التي تم تناولها بشكل مبتسر ومبتذل عندما فسرت كلمة الأسف بأنها اعتذار من حماس على طريقة (ولا تقربوا الصلاة)، لنكمل قراءة الفقرة حتى النهاية لنجد أن الفقرة الخامسة:

أ‌- تحمل الاحتلال مسؤولية ما وقع للمستوطنين الصهاينة، مما يعني أنه لا تبعات على المقاومة: ونأمل أن يتفهم المدنيون الإسرائيليون أن الاستهداف المستمر لنا من جانب حكومتهم هو الأساس ونقطة البداية وليس إطلاق الصواريخ إلا رد فعل محدود ومتواضع.

ب‌- حوت جملة مهمة للغاية لم يتناولها أحد في الصحافة بالشكل الكافي بالرغم من أنها تنسف ادعاء اعتذار حماس بشكل كامل، فهي تؤكد على شرعية إطلاق الصواريخ: "ولكنه يحمل رسالة صارمة بأنه رغم ضعفنا المادي فإننا مصممون على إزالة الاحتلال والدفاع ضد العدوان بكل ما نملك وهو أمر مشروع تماماً في القانون الدولي".

إطلاق الصواريخ هو رسالة صارمة في وجه الاحتلال، وتأكيد على صد العدوان بكل ما نملك، وهو أمر مشروع.

تقرير جولدستون ورد حكومة غزة عليه مليئان بالأدلة التي تدين الاحتلال، وهي فرصة يجب استغلالها لفضح المحتلين أمام العالم، ومطاردة قادة الاحتلال في المحافل الدولية، بدلاً من الغرق في مناكفات بين حماس وفتح، ومزايدات لا طائل منها، فعدونا في نهاية المطاف هو الاحتلال الصهيوني، ويجب أن تتكاتف جهودنا لمحاصرته.

الجمعة، 5 فبراير 2010

الشيخ فرحان السعدي على خطى القسام: في ذكرى استشهاد القسام -3-

لا يعتبر الشيخ فرحان السعدي أبرز أتباع القسام فحسب، بل كان المحرك الذي أشعل الثورة الكبرى عام 1936م، تاركاً بصمات الشهيد عز الدين القسام على الثورة، وعلى مسيرة النضال والجهاد في فلسطين على مدار أكثر من سبعين عاماً.

حياته ونشأته:

ولد الشيخ فرحان السعدي في قرية المزار قضاء جنين عام 1858م، ودرس في كتاب القرية ثم أكمل في مدرسة جنين الابتدائية، وكان مثابراً في شبابه على حضور الدروس الدينية في المساجد، بحيث عرفه الناس بالشيخ فرحان، وذكرت بعض المصادر أنه أكمل دراسته في المعهد الأحمدي العلوم الدينية واللغوية في عكا.

عمل الشيخ إماماً لأحد مساجد مدينة بيسان القريبة من قريته، وكان الشيخ أحد النشطاء المحرضين على الاحتلال والمدافعين عن حق العرب في فلسطين أمام الهجمة الصهيونية التي كانت ترعاه بريطانيا، وشارك في ثورة البراق عام 1929م وألف مجموعة من المجاهدين في منطقة جنين، ليسجنه الاحتلال البريطاني لمدة ثلاثة أعوام، وبعد الإفراج عنه تواصل مع الشهيد القسام وانضم إلى مجموعاته.

قدم الشيخ فرحان الدعم للقسام وساعده على تجنيد المجاهدين في منطقة جنين وتعريفه على المنطقة وأبنائها، فالقسام كان يسعى لتوسيع نطاق عمله من حيفا جنوباً ليشمل كامل فلسطين، فكان فرحان السعدي خير عونٍ له، وقبل استشهاده بأيام اجتمع القسام مع السعدي في قرية نورس القريبة من جنين، وكان الاتفاق أن يلتقيا في وقت لاحق. لكن شاءت الأقدار أن يستشهد القسام.

كان السعدي أحد أبرز مساعدي ورجال القسام، إلا أن مجموعات القسام لم تكن تنظيماً بالمعنى المعروف، فلا يمكن القول أنه ترأس التنظيم بعد القسام، إلا أن مبادراته في الميدان جعلته أبرز رجال القسام على الإطلاق، وبالرغم من أن عمره قد بلغ 77 عاماً يوم استشهد القسام، إلا أنه كان يعمل في الميدان مثله مثل ابن العشرين عاماً.

ثورة عام 1936م – المرحلة الأولى:

كان الشيخ فرحان السعدي الشرارة التي أطلقت ثورة عام 1936، ففي 17/4/1936م قام هو ومجموعة صغيرة من رجاله (لا يتجاوزون الثلاثة) بنصب حاجز على طريق عنبتا طولكرم، وقاموا بتفتيش السيارات المارة بحثاً عن مستوطنين يهود، وقاموا بإعدام اثنين منهم، فيما كانوا يجمعون التبرعات من المواطنين العرب، ويقولوا لهم نحن رجال القسام.

تبعت الحادثة مواجهات في مدينة يافا بين العرب واليهود، فبجوار يافا كانت تل أبيب معقل اليهود يومها (وهي لليوم كذلك فنصف الصهاينة اليوم يعيشون في منطقة تل أبيب الكبرى)، وشن اليهود هجمات انتقامية وقتلوا عدداً من أهل يافا. تطورت المواجهات لتعلن القيادة السياسية العربية في فلسطين العصيان المدني على الاحتلال البريطاني وإضرابا شاملاً استمر ستة شهور، وكان مطلبهم الأساسي وقف المشروع الاستيطاني الصهيوني، كما تشكلت اللجنة العربية العليا ممثلة للأحزاب السياسية التي كانت موجودة وقتها، وبدأت أعمال المقاومة المسلحة بالتزايد وخصوصاً عمليات القنص التي تستهدف مقرات الاحتلال البريطاني.

وقدم المتطوعون العرب للمساعدة في تدريب المجاهدين والثوار، وكان على رأسهم فوزي القاوقجي وهو ضابط سابق في الجيش العثماني، وطلبت بريطانيا من زعماء الدول العربية التوسط لدى اللجنة العربية العليا لإيقاف الإضراب ، وبالفعل أوقف الإضراب في شهر تشرين أول (10) من نفس العام على أساس وعود بإيجاد حل سياسي يرضي الشعب العربي في فلسطين (قلنا سابقاً أن التسميات القطرية فلسطيني ومصري وأردني لم تكن قد ظهرت في تلك الفترة التاريخية)، وحلت أغلب المجموعات المسلحة وانسحب المتطوعون العرب.

بدأ الاحتلال البريطاني بالمراوغة واللف والدوران، واقترحت لجنة بيل الملكية تقسيم فلسطين بحيث يأخذ الصهاينة منطقة الجليل والساحل من الحدود اللبنانية شمالاً حتى يافا جنوباً، طبعاً الاقتراح رفض عربياً وصهيونياً، وبقيت الأمور عالقة، والغليان يزداد والمواجهات مع اليهود ترتفع وتيرتها.

ثورة عام 1936م – المرحلة الثانية:

ومثلما كان الشيخ فرحان السعدي الشرارة للمرحلة الأولى للثورة، كان أيضاً الشرارة للمرحلة الثانية من الثورة ففي شهر أيلول 9 من عام 1937م قام بقتل حاكم منطقة الجليل وهو ضابط بريطاني يدعى أندروز أثناء ذهابه للصلاة في كنيسة بمدينة الناصرة، أعلن الاحتلال البريطاني بعدها حالة الطوارئ، واعتقل قسماً من القيادة السياسية وهرب قسماً آخر إلى خارج فلسطين واستنفر المجاهدون وبدأت عملياتهم بالتصاعد.

تمركز الثوار في الجبال والأرياف على شكل مجموعات مكونة من 50 إلى 70 رجلاً (وكانت كل مجموعة تسمى بالفصيل، وهي التسمية المستخدمة في الجيوش للتشكيلات العسكرية من نفس العدد - وهنا نلمس تأثير تلك المرحلة على العمل النضالي الفلسطيني حتى يومنا هذا، فمسمى الفصائل الفلسطينية يستخدم اليوم للإشارة إلى التنظيمات الفلسطينية، كما أن أي تنظيم يفتقر لجناح عسكري وتاريخ في العمل المسلح ينظر له بدونية واستخفاف، وهي إحدى الثوابت التي رسختها الثورة الكبرى). ومن الملاحظ العلاقة الفضفاضة التي ربطت فصائل الثوار، بالرغم من تشكيل اللجنة المركزية للجهاد ومقرها دمشق لإدارة وتوجيه الفصائل، وبإشراف الحاج أمين الحسيني، فيما كان عزت دروزة يدير أمور اللجنة ميدانياً.

طارد البريطانيون الشيخ فرحان السعدي وتمكنوا من نصب كمين له وإلقاء القبض عليه مع ثلاثة من رفاقه، وقدم لمحاكمة سريعة حكم عليه فيها بالإعدام وفي 27/11/1937 نفذ حكم الإعدام فيه شنقاً وعمره 80 عاماً. لقي الشيخ فرحان السعدي ربه صائماً في شهر رمضان المبارك، مجاهداً شهيداً، نسأل الله أن يتقبل منه وأن يسكنه في عليين. وكان لإعدامه في هذا السن والوقت أثراً بالغاً أجج الثورة، كما شكل غياب القيادة السياسية الموزعة بين المعتقلات والمنافي دافعاً آخر، نظراً لدورها في تهدئة الناس نظراً لميلها إلى محاولة التفاهم مع الاحتلال البريطاني.

بلغت الثورة الكبرى ذروتها في صيف عام 1938م وانهارت الإدارات الحكومية وفقد البريطانيون السيطرة على الأرياف وبعض المدن، واضطرت بريطانيا العظمى لتجنيد الاحتياط واستدعاء فرقتين من قواتها المتمركزة في الهند للمساهمة بقمع الثورة، وقامت بتسليح ستة آلاف مقاتل يهودي واستخدمتهم في عملياتها الهجومية، وبدأت منذ أواخر عام 1938م بـ"إعادة احتلال فلسطين" كما وصف الموقف المؤرخ عبد الوهاب الكيالي.
استخدمت بريطانيا الوحشية المفرطة في قمع الثورة لتتمكن من إعادة السيطرة على البلاد أواسط عام 1939م، وقامت بتصفية واعتقال أغلب قادة الثوار، لتنتهي بذلك الثورة الكبرى عملياً.

أسباب فشل الثورة:

فشلت الثورة الكبرى لعدة أسباب أهمها الفارق الكبير في ميزان القوى حيث كانت الأمبرطورية البريطانية قوة عظمى في ذلك الوقت تملك قوة جوية ضاربة، واستدعت فرق إضافية وجندت المستوطنين اليهود، وفي المقابل كانت إمكانيات الثوار المادية والتسليحية والعددية متواضعة.
وإن كان استمرار الثورة ممكناً رغم اختلال ميزان القوى، إلا أن ذلك كان مشروطاً بالقدرة على إعادة تعويض الخسائر التي تلحق بالثوار، فكان افتقارهم لقيادة قادرة على إعادة إنتاج نفسها، من خلال استقطاب عناصر جديدة لتعويض النقص البشري، بالإضافة إلى انفصال الأحزاب السياسية عن الثوار سبباً قاد إلى تلاشي الثورة ونهايتها بمجرد اعتقال قادة الثورة وتصفيتهم.

كما لعبت أخطاء الثوار دوراً في فشل الثورة، وخاصة كثرة الاغتيالات السياسية بحق الشخصيات السياسية العربية المتواطئة مع بريطانيا وغيرهم ممن اعتبروا خونة ومتواطئين والتوسع في اتهام الناس بالخيانة ولأمور لا تستحق مثل العمل في الإدارات الحكومية، فأورثت هذه الاغتيالات أحقاداً لدى أقارب من قتلوا على يد الثوار، ودخل الثوار في دوامة ثأر وثأر مضاد مع أهل من اغتيلوا مما أنهك قوتهم وشتت جهودهم.

ما بين الانتفاضتين وثورة عام 1936:

عندما يقارن المرء بين الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى من جهة والثورة الكبرى من جهة ثانية فإن عدة أسئلة تدور في خلده أهمها: ما هي أوجه الشبه والاختلاف بينهما؟ وهل تنتهي الأمور بنا كما انتهت بعد الثورة الكبرى – أي العودة لنقطة الصفر؟

تماثل الانتفاضة الأولى المرحلة الأولى للثورة الكبرى من ناحية الطابع المقاومة الشعبية والنضال السياسي والعصيان المدني، فيما تشبه الفترة بين مرحلتي الثورة الكبرى الفترة بين توقيع اتفاقية أوسلو واندلاع انتفاضة الأقصى، حيث برزت ظاهرة البحث العبثي عن حلول تفاوضية تحفظ الحق الفلسطيني، وتشبه المرحلة الثانية من الثورة انتفاضة الأقصى باعتمادها على المقاومة المسلحة وتحقيقها نجاحات ميدانية (مع وجود تفاوت بين التجربتين). فهل يعني هذا أن نهاية انتفاضة الأقصى ستكون كنهاية الثورة الكبرى؟

هناك اختلاف جوهري بين انتفاضة الأقصى والثورة الكبرى، وهو ارتباط العمل المقاوم المسلح اليوم بتنظيمات سياسية قادرة على إعادة إنتاج نفسها وليس مجرد مجموعات من الثوار والمجاهدين، وفيما تمكنت المقاومة في غزة من حماية ذاتها من الفناء، فإنها تلقت ضربات قاصمة في الضفة الغربية لكن بذور استمراريتها تبقى موجودة وكامنة.

ولكي لا نعيد مأساة الثورة الكبرى، يجب أن نحافظ على غزة كقاعدة عسكرية تصلح مستقبلاً للبناء عليها، لا نريد استنزاف كل قوتنا لتذهب أدراج الرياح ونعود إلى نقطة البداية كما حصل في الثورة الكبرى، كما يجب أن لا تسمح المقاومة لمن يريد جرها إلى حروب وصراعات أهلية كما حصل مع الثوار في أواخر الثلاثينات، فمثل حسم غزة كان استثناءً ويجب أن يبقى استثناء، حتى تحافظ المقاومة على ما لديها لمواجهة العدو الحقيقي.

دروس وعبر: في ذكرى استشهاد القسام -2-


ركز القسام على تدريب الرجال وإعدادهم، فقد آمن بضرورة الإعداد الجيد قبل إعلان الثورة، وكان الإعداد في رأيه ليس التدرب على السلاح فحسب بل أيضاً مكافحة الأمية ونشر الوعي الديني والسياسي، إلا أن القسام كان يتعرض لضغوط من أتباعه المستعجلين لإعلان الثورة وحمل السلاح بوجه الحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني.

وفي الفترة بين عامي 1929م و1935م نفذت المجموعات التابعة للقسام مجموعة من العمليات، وأبرزها تفجير عبوة ناسفة في غرفة تعود لحراس مستوطنة نهلال في مرج ابن عامر عام 1932م حيث قتل اثنين من حراس المستوطنة، فضلاً عن قتل عدداً من المستوطنين خلال عدة عمليات إطلاق نار.

ومن غير الواضح عما إذا كانت هذه العمليات تتم بتوجيه من القسام أم نتيجة لاستعجال رجاله العمل العسكري، في ضوء الموقف المعروف للقسام الذي كان يعطي للتدريب والإعداد الأولوية القصوى، إلا أن من يعرف طبيعة العمل السري والتشكيلات القائمة على خلايا عسكرية مثل التي شكلها القسام يدرك أن هذه الخلايا تعمل ضمن هامش حرية واسع نسبياً، ويبدو أن هذه العمليات نفذت ضمن هامش الحرية هذا.

وذهب بعض الباحثين إلى أن خليل محمد عيسى والملقب بأبي إبراهيم الكبير، ويعد الرجل الثالث بعد القسام والشيخ فرحان السعدي، قد اختلف مع القسام، فقد كان يرى استعجال البدء بالعمل المسلح، واستقل في عمله مع مجموعته ونشطوا في منطقة حيفا – شفاعمرو، وعرفوا خلال ثورة عام 1936م بـ "الدراويش" (كان الناس في تلك الأيام ينسبون كل شيء متدين إلى الجماعات الصوفية والدروشة).

كان ميناء حيفا استراتيجياً ومهماً بالنسبة لبريطانيا وكانت تصدر عبره نفط شمال العراق إلى أوروبا، وعمل به المئات من العرب ليس فقط من فلسطين بل من مصر ودول أخرى، وكان الكثير من رجال القسام من العاملين في الميناء، مثل أبو إبراهيم الكبير نفسه وهو من قرية المزرعة الشرقية، وسيد عطية من مصر ورفيق القسام في نيل الشهادة.

بالرغم من موقف القسام الحاسم من الاحتلال البريطاني وممن يتعامل مع المحتل البريطاني إلا أن ذلك لم يمنعه من التعامل مع عمال الميناء، كما لم تمنعه معصية العصاة من دعوتهم ومحاولة إصلاحهم، فقد كان يدرك أن خلف كل إنسان عاصي أو عامل في ميناء تشغله بريطانيا العظمى يكمن مشروع مؤمن ملتزم ومشروع مجاهد.

لم يكتف القسام بتجنيد الرجال في حيفا بل وسع نشاطه إلى القرى المجاورة مستغلاً عمله كمأذون شرعي، كما توسع جنوباً فجند الرجال من منطقة جنين، وأبرزهم كان الشيخ فرحان السعدي من قرية المزار والشيخ يوسف أبو درة من سيلة الحارثية ومحمد صالح الحمد من سيلة الظهر (وكلها قرى في قضاء جنين)، وكانوا من أبرز قادة ثورة عام 1936م، بل إن الشيخ فرحان السعدي كان مفجر ثورة عام 1936م.

حاول القسام إقناع الحاج أمين الحسيني بالانضمام إليه في مساعي الإعداد للثورة، لما يتمتع به الحاج من نفوذ على مستوى فلسطين عامة ومنطقة القدس ووسط فلسطين خاصة، إلا أن الحاج أمين اعتقد في تلك الفترة أنه ما زال من المبكر حمل السلاح بوجه بريطانيا وأنه من المفضل اتباع الوسائل السلمية للضغط على بريطانيا، واكتشف الحاج أمين الحسيني لاحقاً أنه لا بديل عن الثورة وذلك عام 1939م.

القسام في أحراش يعبد:

بدأ الاحتلال البريطاني بالتنبه للقسام مع ازدياد نشاط مجموعاته، وفي شهر 10 من عام 1935م خطب القسام خطبة نارية وجمع التبرعات للجهاد ثم اختفى عن الأنظار، ويبدو أنه شعر باشتداد قبضة البريطانيين وأنه قد يعتقل أو تجهض مشاريعه في مرحلة مبكرة.

توجه القسام في الشهر التالي إلى قرية نورس قرب جنين حيث التقى بالشيخ فرحان السعدي للقيام بجولة في قرى جنين ونابلس لتجنيد رجال جدد، وكان معه عشرين رجلاً من اتباعه، وانطلق بعدها قاصداً عدداً من القرى المجاورة. وفي 14/11 اصطدمت المجموعة قرب قرية فقوعة بحارس مستوطنة عين جارود المجاورة الذي كان يتفقد المنطقة المحيطة بالمستوطنة، فقاموا بقتله مما أدى إلى لفت انتباه سلطات الاحتلال البريطاني وبدأت عملية مطاردة المجموعة.

وقرب قرية كفر دان بعدما اشتدت الملاحقة قرر أحد أفراد المجموعة محمد أبو قاسم خلف، وهو من قرية حلحول شمال الخليل وأحد عمال ميناء حيفا، البقاء في المكان ومشاغلة القوة البريطانية التي تطاردهم حتى يمنح رفاقه الوقت اللازم للهروب، واشتبك مع القوة البريطانية وسقط شهيداً.

وفي الطريق قرر القسام أن يقسم مجموعته إلى قسمين حتى يخفف من الخسائر في حال حصل مكروه، وتوجه مع 8 من رجاله صوب أحراش يعبد، وعند خربة الشيخ زيد الواقعة رصد أحد أفراد المجموعة قوة استطلاع بريطانية فأطلق عليها النار مما أدى لمقتل ضابط بريطاني، ويبدو أنه ظنها قوة صغيرة وأنها ستكون غنيمة سهلة، لكنها كانت مجرد قوة استطلاعية.

وعلى الفور بدأت القوات البريطانية بمحاصرة منطقة الأحراش واستدعت التعزيزات، وتجاوز عدد القوة الـ400 جندي وشرطي فضلاً عن مساندة الطيران، ومرة أخرى قرر القسام قسم المجموعة إلى قسمين فأمر خمسة من الذين كانوا معه بأن ينسحبوا من المكان، وبقي مع ثلاثة من رفاقه لمشاغلة القوة المحاصرة، ودارت معركة استمرت طوال يوم 19/11 حتى فجر اليوم التالي، واستشهد القسام وسعيد عطية ويوسف الزيباري فيما أصيب حسن الباير ووقع في الأسر هو وثلاثة آخرين من المجموعة.

ومما رواه رفاق القسام أنه في معركة أحراش يعبد أوصاهم بعدم استهداف رجال الشرطة العرب، وأن يحاولوا قتل الجنود البريطانيين فقط، من منطلق أن رجال الشرطة قد يكونوا مضللين وأنه قيل لهم أنهم يطاردون عصابة من قطاع الطرق. ولم يكن هذا غريباً عن نهج القسام وهو الذي كان يزور المقاهي ليدعو روادها إلى الصلاة وهو الذي كان يزور من اشتهروا بفسوقهم وعصيانهم في منازلهم حرصاً على هدايتهم ودعوتهم.

أعطى القسام مثالاً حياً للبندقية الواعية، البندقية التي تخدم هدفاً سامياً وتتخذ طريقاً سليماً لتحقيق هذا الهدف، القسام طلب من أفراد مجموعته التفرق ولم يطلب منهم البقاء لمواجهة البريطانيين لأنه حرص على أن يبقوا على قيد الحياة ومواصلة مسيرة الجهاد من بعده، ومثل القادة العظام قرر أن يكون في مقدمة المعركة وأن يكون آخر من ينسحب من أرض المعركة.

في معركة أحراش يعبد قال القسام جملته المشهورة التي ما زالت تتردد حتى اليوم: "إنه لجهاد نصر أو استشهاد"، هكذا فهم القسام العمل الجهادي، يجب أن يكون هنالك هدف وليس مجرد الجهاد لأجل القتال، بل القتال لكي ننتصر وأن نتخذ ما يكفي من أسباب النصر من تدريب وتجهيز وإعداد وتخطيط، وإن لم يكن النصر في الحياة الدنيا فلتكن الشهادة والنصر في الحياة الآخرة.

أثر استشهاد القسام على مسيرة المقاومة والجهاد:

أحدث استشهاد القسام هزة عميقة في المجتمع الفلسطيني، فقد كانت مكانته الشعبية عظيمة لدى الناس الذين عرفوه خطيباً مفوهاً ورجل إصلاح وعمل اجتماعي، لم يكن أكثر الناس على دراية بالجانب الجهادي الميداني للقسام، فكان مثالاً لرجل عمل بما كان يدعو له، وخرج آلاف الناس في مسيرة مهيبة ودفن في قرية بلد الشيخ قرب حيفا.

مع دفن جسد القسام ولدت مدرسة القسام، فكم من خطيب ومنظر دعا للجهاد، لكن عندما يأتي وينظر لفكرة ويطبقها على أرض الواقع فستكون أقوى وقعاً في نفوس الناس، كان أثر القسام في حياته مقتصراً على أهل حيفا وشمال فلسطين، لكن باستشهاده عم أثره جميع فلسطين، وبات هنالك وعي بخطورة المشروع الصهيوني وبوجود خيار حمل السلاح لمحاربة هذا المشروع ولمحاربة بريطانيا العظمى التي تحميه وتدافع عنه.

كان لرجال القسام دوراً كبيراً في تأجيج وقيادة ثورة عام 1936م، وتميزوا عن غيرهم من الثوار بتدينهم وحسن تعاملهم مع الشعب، وما زال أثرهم باقياً حتى اليوم، فمثلاً بلدة سلواد كان لها ولرجالها دور كبير في الثورة، منهم والد خالد مشعل - عبد الرحيم مشعل والذي شارك بالثورة وهو شاب صغير، ولا بد أن لذلك أثر على تربيته لابنه الذي يقود حركة جناحها العسكري يحمل اسم القسام.

وعلى نمط "تأثير الفراشة" لعلماء البيئة، يمكن استقراء أحد آثار القسام في سلواد، فخلال ثورة عام 1936م أقام البريطانيون نقطة للشرطة على طريق وادي عيون الحرامية القريب من البلدة للمساهمة في حفظ أمن الجيش البريطاني، وفي انتفاضة الأقصى أنشأ جيش الاحتلال الصهيوني نقطة تفتيش عند نفس النقطة، لتكون مقبرة لـ12 جندياً صهيونياً قتلهم قناص "عيون الحرامية" ابن بلدة سلواد ثائر حماد عام 2002م، فبعد أكثر من سبعين عاماً ما زال صدى القسام يتردد في جبال فلسطين.

اندلعت شرارة ثورة عام 1936م على يد الشيخ فرحان السعدي، عندما نصب هو وعدداً من رفاقه حاجزاً على طريق عنبتا- طولكرم وأوقف السيارات بحثاً عن يهود وقتل مسافرين يهوديين، كما جمع التبرعات من السائقين العرب قائلاً لهم نحن رجال القسام، في اليوم التالي اندلعت مواجهات في يافا بين اليهود والعرب، فقد كانت منطقة يافا -وما زالت حتى يومنا هذا- مركز تجمع اليهود الأساسي في فلسطين، وتصاعدت الأمور لتندلع الثورة الكبرى التي استمرت ثلاث سنوات، والتي سنتكلم عن دور الشيخ فرحان السعدي فيها في المرة القادمة بإذنه تعالى.

دروس وعبر: في ذكرى استشهاد القسام -1-


مرت ذكرى استشهاد الشيخ عز الدين القسام نهاية الشهر الماضي، حيث استشهد في العشرين من تشرين ثاني عام 1935م بعد معركة بطولية مع الجيش البريطاني استمرت لأقل من يوم واحد بقليل، لكنها غيرت مجرى التاريخ، وما زلنا بعد 74 عاماً نعايش المنهج الذي اختطه الشهيد والذي سيقودنا نحو التحرير في نهاية المطاف بإذنه تعالى.

سنحاول التعرف على حياة القسام وما قدمه للقضية الفلسطينية وما أسسه لحركات المقاومة من بعده، فهو أكثر من مجرد مقاوم أو مجاهد حمل السلاح في وجه الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، وأكثر من خطيب مفوه حرض الجماهير على أن تأخذ زمام المبادرة بأيديها بترداده لها "اعلموا أن خلاصنا بأيدينا"، القسام كان وما زال مدرسة وعلامة فارقة في التاريخ.

نشأة الشيخ:

ولد الشهيد عز الدين القسام عام 1882م في بلدة جبلة الساحلية جنوبي مدينة اللاذقية، وذهب وهو في الرابعة عشر من عمره إلى الأزهر حيث درس وأخذ الشهادة الأهلية وتأثر بمشايخ الأزهر الكبار أمثال الشيخ محمد عبده، وبعد رجوعه إلى بلدته عمل إماماً لمسجد المنصوري.

لم تكن في تلك الأيام الحدود التي نعرفها اليوم، وكان ذهاب القسام من جبلة للدراسة في الأزهر مثلما يذهب اليوم ابن اللاذقية للدراسة في دمشق، وابن أسيوط إلى القاهرة، وابن جدة إلى الرياض، لم يكن هنالك حدود ولا أسوار بين العرب في تلك الأيام، ولم تكن العصبيات القومية ولا النعرات الفارغة التي نسمعها تتردد من المحيط إلى الخليج، ويا ليتها تعبر عن شيء حقيقي.

بدأ اهتمام الشهيد بمقاومة المحتل مبكراً، فعندما حاصرت إيطاليا مدينة طرابلس الغرب عام 1911م جمع حوالي 250 متطوعاً وجمع التبرعات لتمويل سفرهم إلى هناك ومساعدة أهلها على هزيمة الطليان، إلا أن المدينة احتلت قبل انتهاء الاستعدادات فصرف المتطوعين وتم إنفاق أموال التبرعات على إنشاء مدرسة.

بعد احتلال الفرنسيين لسوريا شارك القسام في الثورة، تحت إمرة المجاهد عمر البيطار في جبال "صهيون" على الساحل السوري، كأن الأقدار كانت تهيئ القسام لمواجهة الصهاينة في فلسطين، واستمر في مواجهة الفرنسيين من عام 1920م حتى عام 1921م، عندما بدأ كبار قادة الثورة يستسلمون للأمر الواقع وبدأوا بمفاوضة الفرنسيين وإلقاء السلاح أمثال إبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وغيرهم.

لكن القسام لم يؤمن يوماً بمهادنة المستعمر وواصل الطريق واستمر في حمل السلاح، وحكم عليه بالإعدام غيابياً، وبعد أن ضيق عليه، لم يجد من سبيل إلا المغادرة وتوجه نحو فلسطين، حيث كانت فلسطين على موعد مع المدرسة الجهادية المسماة عز الدين القسام.

القسام في حيفا:

استقر القسام في حيفا أواخر عام 1921م أو أوائل عام 1922م (حسب الروايات المختلفة للمؤرخين)، وفي هذه المدينة - الميناء الأول للاحتلال البريطاني تعرف القسام على حقيقة الخطر الصهيوني وحجمه، وتعرف على آلاف الفلاحين المهجرين والذين كانوا يعيشون في أحياء حيفا الفقيرة، بعد أن طردهم الاحتلال البريطاني من قراهم لصالح المستوطنين الصهاينة، وقدر بعض المؤرخين عددهم في تلك المرحلة بـ11 ألف مهجر، قدموا من عدة قرى في منطقة مرج ابن عامر والأغوار الشمالية ومحيط حيفا، مثل زمارين وشطة ووادي الحوارث وغيرها.

نعم، نحن لا نتكلم عن حرب عام 1948م بل نتكلم عن عام 1922م، وكانت مشكلة التهجير وطرد الناس من قراهم قد بدأت للتو، وهذه حقيقة يجب الوقوف عندها ملياً لأن البعض يلوم العرب لأنهم حاربوا الصهاينة عام 1948م وأنهم بذلك تسببوا بتهجير الشعب الفلسطيني، فعندما قدم القسام إلى حيفا ورأى آلاف المهجرين لم يكن أحد قد حمل السلاح لا ضد اليهود ولا ضد البريطانيين، القسام بذكائه وبعد نظره علم أنه إذا لم يحمل السلاح ويحارب المشروع الصهيوني فإنهم سيأكلون الأخضر واليابس.

يعتبر القسام الرمز الأول للمقاومة والجهاد في التاريخ الفلسطيني الحديث، لكن القسام لم ير في السلاح سبيلاً وحيداً للتحرير والانتصار، فكان من أول ما قام به في حيفا هو الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية للمدينة، شارك بتأسيس وبناء مسجد الاستقلال عام 1926م حيث كان المسجد مكان الدعوة والتحريض على الجهاد والانتفاض ضد الاحتلال البريطاني، كما انتخب القسام رئيساً لجمعية الشبان المسلمين في حيفا في نفس العام.

كان اهتمام القسام منذ البدايات منصباً على تعليم الناس وتثقيفهم وتوعيتهم، وقبل أن يعلمهم حمل السلاح، عمل على إنشاء المدارس الليلية في حيفا لتعليم العمال الأميين، وشارك بتأسيس المدرسة الإسلامية في المدينة وعمل فيها فترة مدرساً، فقد كان العلم ونشر العلم من هموم القسام الأولى، وشرطاً من شروط النهضة والانتصار والتحرير.

حرص القسام طوال وجوده في حيفا على الاحتكاك بالناس ودعوتهم للالتزام الديني، مستغلاً عمله كمأذون شرعي وخطيب مسجد الاستقلال وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، من أجل الدعوة لمقاومة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني بقوة السلاح، كما حرص على محاربة البدع والخزعبلات التي كانت منتشرة في المجتمع (مثل تقديم الأضاحي والنذور لقبور الأولياء) من خلال خطبه ومواعظه ومن خلال الكتابة في الصحافة المطبوعة، بل كان يطوف على المقاهي ليدعو روادها البعيدين عن الدين والتدين ليقبلوا على الصلاة والصيام والالتزام الديني.

المتتبع لحياة القسام يجد شخصاً آمن بشمولية الإسلام وأن التحرير والانتصار لا يمر فقط من خلال البندقية، التي آمن بحتمية حملها، وخوّن من تحالف مع بريطانية أو تأمل منها خيراً وله مقولة شهيرة (من جرب المجرب فهو خائن) قاصداً الحوار مع الاحتلال البريطاني، إلا أن ذلك لم يمنعه من الانخراط في المجتمع السياسي الفلسطيني، بل وانضم إلى حزب الاستقلال والذي أسس عام 1932م، وكان أول حزب غير قائم على أسس عائلية وعشائرية ويقوم على المطالبة بطرد المحتل البريطاني من فلسطين، لم يعش الحزب طويلاً وأنهار بعد عام تحت وطأة الخلافات الداخلية، ولم يذكر كثيراً عن دور القسام في حياة حزب الاستقلال القصيرة، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن علاقة القسام بالحزب لم تتجاوز العلاقة الشخصية ببعض مؤسسي الحزب.

القسام يؤسس للثورة:

بدأ القسام بالتحريض على حمل السلاح ومحاربة البريطانيين والصهاينة من على منبر مسجد الاستقلال، وكان القسام مميزاً في طرحه عن الساسة التقليديين القادمين من خلفيات عائلية وعلى رأسها آل الحسيني وآل النشاشيبي، فقد كانت الطبقة السياسية التقليدية ترى أنه لا قبل للشعب العربي في فلسطين (لم يكن في تلك الأيام مسمى شعب فلسطيني ولا أردني ولا مصري، هكذا كانت التسميات) بمحاربة بريطانيا العظمى، وأن المشكلة هي مع الحركة الصهيونية، وأنه يمكن من خلال العمل السياسي الهادئ التفاهم مع بريطانيا لكبح جماح الحركة الصهيونية.

أما القسام فكان يرى أنه بما أن بريطانيا هي الراعي الرسمي للحركة الصهيونية وهي التي تقدم لها التسهيلات وتهجر سكان القرى من أجل بناء المستوطنات فلا جدوى من الحوار معها، وهنا يلتقي القسام مع طروحات حزب الاستقلال، ورأى أن الحل الوحيد هو مقاومتها بالسلاح ومحاربتها.

قبل حركة القسام لم يكن هنالك عمل مسلح منظم لمقاومة الحركة الصهيونية أو الاحتلال البريطاني، بل كان هنالك ردات فعل جماهيرية، وهبات سرعان ما تخمد، وكان هنالك أفراد يصبحون مطلوبين للأمن البريطاني لسبب أو آخر فيلجأون إلى الجبال والأرياف ويحملون السلاح، مثل عصابة الكف الأخضر التي تزعمها أحمد طافش، والذي عمل في منطقة الجليل، بعد مشاركته بثورة البراق عام 1929م (وهي بحد ذاتها كانت انتفاضة عفوية وليس عملاً منظماً) وبعد أن صدرت أوامر بالقبض عليه.

جاء القسام بفكرة جديدة على زمنه، وهي العمل المقاوم المسلح المنظم، وحمل السلاح كخيار وليس كردة فعل أو كاضطرار، كما آمن القسام أن نجاح أي ثورة مسلحة يحتاج لإعداد جيد، فكانت أولى خطواته هي مرحلة الإعداد والتجهيز. وابتداءً من عام 1929م بدأ بتأسيس خلايا عسكرية للتدرب على السلاح، وكانت مجموعته مكونة من خمس وحدات: وحدة الدعوة، ووحدة الاتصالات السياسية، ووحدة التدريب، ووحدة التجسس وجمع المعلومات، ووحدة جمع التبرعات.

كانت مجموعة القسام تتكون من خلايا لا يتجاوز عدد أفراد الخلية الواحدة عن الخمسة أفراد، وكان كل عضو يسهم بمبلغ من المال حسب طاقته، وبلغ عدد الذين دربهم القسام حتى وقت استشهاده ما يقارب من المئتي رجل، كانوا محرك ووقود ثورة عام 1936م، بل لا نبالغ عندما نقول أن القسام بعمله هذا أسس لكل ما تلاه من ثورات وحركات في التاريخ الفلسطيني الحديث ابتداء من ثورة عام 1936م، مروراً بانطلاقة حركة فتح ومعركة الكرامة وحرب البيارات في غزة والانتفاضة الأولى وانتفاضة النفق، وأخيراً وليس آخراً انتفاضة الأقصى وحرب الفرقان، ويمكن القول أن كل من حمل السلاح مقاوماً ومحارباً للمشروع الصهيوني يدين للقسام الذي كانت البداية من عنده.

نتابع في الجزء الثاني القسام مجاهداً وشهيداً بإذنه تعالى.