الجمعة، 5 فبراير 2010

دروس وعبر: في ذكرى استشهاد القسام -1-


مرت ذكرى استشهاد الشيخ عز الدين القسام نهاية الشهر الماضي، حيث استشهد في العشرين من تشرين ثاني عام 1935م بعد معركة بطولية مع الجيش البريطاني استمرت لأقل من يوم واحد بقليل، لكنها غيرت مجرى التاريخ، وما زلنا بعد 74 عاماً نعايش المنهج الذي اختطه الشهيد والذي سيقودنا نحو التحرير في نهاية المطاف بإذنه تعالى.

سنحاول التعرف على حياة القسام وما قدمه للقضية الفلسطينية وما أسسه لحركات المقاومة من بعده، فهو أكثر من مجرد مقاوم أو مجاهد حمل السلاح في وجه الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، وأكثر من خطيب مفوه حرض الجماهير على أن تأخذ زمام المبادرة بأيديها بترداده لها "اعلموا أن خلاصنا بأيدينا"، القسام كان وما زال مدرسة وعلامة فارقة في التاريخ.

نشأة الشيخ:

ولد الشهيد عز الدين القسام عام 1882م في بلدة جبلة الساحلية جنوبي مدينة اللاذقية، وذهب وهو في الرابعة عشر من عمره إلى الأزهر حيث درس وأخذ الشهادة الأهلية وتأثر بمشايخ الأزهر الكبار أمثال الشيخ محمد عبده، وبعد رجوعه إلى بلدته عمل إماماً لمسجد المنصوري.

لم تكن في تلك الأيام الحدود التي نعرفها اليوم، وكان ذهاب القسام من جبلة للدراسة في الأزهر مثلما يذهب اليوم ابن اللاذقية للدراسة في دمشق، وابن أسيوط إلى القاهرة، وابن جدة إلى الرياض، لم يكن هنالك حدود ولا أسوار بين العرب في تلك الأيام، ولم تكن العصبيات القومية ولا النعرات الفارغة التي نسمعها تتردد من المحيط إلى الخليج، ويا ليتها تعبر عن شيء حقيقي.

بدأ اهتمام الشهيد بمقاومة المحتل مبكراً، فعندما حاصرت إيطاليا مدينة طرابلس الغرب عام 1911م جمع حوالي 250 متطوعاً وجمع التبرعات لتمويل سفرهم إلى هناك ومساعدة أهلها على هزيمة الطليان، إلا أن المدينة احتلت قبل انتهاء الاستعدادات فصرف المتطوعين وتم إنفاق أموال التبرعات على إنشاء مدرسة.

بعد احتلال الفرنسيين لسوريا شارك القسام في الثورة، تحت إمرة المجاهد عمر البيطار في جبال "صهيون" على الساحل السوري، كأن الأقدار كانت تهيئ القسام لمواجهة الصهاينة في فلسطين، واستمر في مواجهة الفرنسيين من عام 1920م حتى عام 1921م، عندما بدأ كبار قادة الثورة يستسلمون للأمر الواقع وبدأوا بمفاوضة الفرنسيين وإلقاء السلاح أمثال إبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وغيرهم.

لكن القسام لم يؤمن يوماً بمهادنة المستعمر وواصل الطريق واستمر في حمل السلاح، وحكم عليه بالإعدام غيابياً، وبعد أن ضيق عليه، لم يجد من سبيل إلا المغادرة وتوجه نحو فلسطين، حيث كانت فلسطين على موعد مع المدرسة الجهادية المسماة عز الدين القسام.

القسام في حيفا:

استقر القسام في حيفا أواخر عام 1921م أو أوائل عام 1922م (حسب الروايات المختلفة للمؤرخين)، وفي هذه المدينة - الميناء الأول للاحتلال البريطاني تعرف القسام على حقيقة الخطر الصهيوني وحجمه، وتعرف على آلاف الفلاحين المهجرين والذين كانوا يعيشون في أحياء حيفا الفقيرة، بعد أن طردهم الاحتلال البريطاني من قراهم لصالح المستوطنين الصهاينة، وقدر بعض المؤرخين عددهم في تلك المرحلة بـ11 ألف مهجر، قدموا من عدة قرى في منطقة مرج ابن عامر والأغوار الشمالية ومحيط حيفا، مثل زمارين وشطة ووادي الحوارث وغيرها.

نعم، نحن لا نتكلم عن حرب عام 1948م بل نتكلم عن عام 1922م، وكانت مشكلة التهجير وطرد الناس من قراهم قد بدأت للتو، وهذه حقيقة يجب الوقوف عندها ملياً لأن البعض يلوم العرب لأنهم حاربوا الصهاينة عام 1948م وأنهم بذلك تسببوا بتهجير الشعب الفلسطيني، فعندما قدم القسام إلى حيفا ورأى آلاف المهجرين لم يكن أحد قد حمل السلاح لا ضد اليهود ولا ضد البريطانيين، القسام بذكائه وبعد نظره علم أنه إذا لم يحمل السلاح ويحارب المشروع الصهيوني فإنهم سيأكلون الأخضر واليابس.

يعتبر القسام الرمز الأول للمقاومة والجهاد في التاريخ الفلسطيني الحديث، لكن القسام لم ير في السلاح سبيلاً وحيداً للتحرير والانتصار، فكان من أول ما قام به في حيفا هو الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية للمدينة، شارك بتأسيس وبناء مسجد الاستقلال عام 1926م حيث كان المسجد مكان الدعوة والتحريض على الجهاد والانتفاض ضد الاحتلال البريطاني، كما انتخب القسام رئيساً لجمعية الشبان المسلمين في حيفا في نفس العام.

كان اهتمام القسام منذ البدايات منصباً على تعليم الناس وتثقيفهم وتوعيتهم، وقبل أن يعلمهم حمل السلاح، عمل على إنشاء المدارس الليلية في حيفا لتعليم العمال الأميين، وشارك بتأسيس المدرسة الإسلامية في المدينة وعمل فيها فترة مدرساً، فقد كان العلم ونشر العلم من هموم القسام الأولى، وشرطاً من شروط النهضة والانتصار والتحرير.

حرص القسام طوال وجوده في حيفا على الاحتكاك بالناس ودعوتهم للالتزام الديني، مستغلاً عمله كمأذون شرعي وخطيب مسجد الاستقلال وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، من أجل الدعوة لمقاومة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني بقوة السلاح، كما حرص على محاربة البدع والخزعبلات التي كانت منتشرة في المجتمع (مثل تقديم الأضاحي والنذور لقبور الأولياء) من خلال خطبه ومواعظه ومن خلال الكتابة في الصحافة المطبوعة، بل كان يطوف على المقاهي ليدعو روادها البعيدين عن الدين والتدين ليقبلوا على الصلاة والصيام والالتزام الديني.

المتتبع لحياة القسام يجد شخصاً آمن بشمولية الإسلام وأن التحرير والانتصار لا يمر فقط من خلال البندقية، التي آمن بحتمية حملها، وخوّن من تحالف مع بريطانية أو تأمل منها خيراً وله مقولة شهيرة (من جرب المجرب فهو خائن) قاصداً الحوار مع الاحتلال البريطاني، إلا أن ذلك لم يمنعه من الانخراط في المجتمع السياسي الفلسطيني، بل وانضم إلى حزب الاستقلال والذي أسس عام 1932م، وكان أول حزب غير قائم على أسس عائلية وعشائرية ويقوم على المطالبة بطرد المحتل البريطاني من فلسطين، لم يعش الحزب طويلاً وأنهار بعد عام تحت وطأة الخلافات الداخلية، ولم يذكر كثيراً عن دور القسام في حياة حزب الاستقلال القصيرة، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن علاقة القسام بالحزب لم تتجاوز العلاقة الشخصية ببعض مؤسسي الحزب.

القسام يؤسس للثورة:

بدأ القسام بالتحريض على حمل السلاح ومحاربة البريطانيين والصهاينة من على منبر مسجد الاستقلال، وكان القسام مميزاً في طرحه عن الساسة التقليديين القادمين من خلفيات عائلية وعلى رأسها آل الحسيني وآل النشاشيبي، فقد كانت الطبقة السياسية التقليدية ترى أنه لا قبل للشعب العربي في فلسطين (لم يكن في تلك الأيام مسمى شعب فلسطيني ولا أردني ولا مصري، هكذا كانت التسميات) بمحاربة بريطانيا العظمى، وأن المشكلة هي مع الحركة الصهيونية، وأنه يمكن من خلال العمل السياسي الهادئ التفاهم مع بريطانيا لكبح جماح الحركة الصهيونية.

أما القسام فكان يرى أنه بما أن بريطانيا هي الراعي الرسمي للحركة الصهيونية وهي التي تقدم لها التسهيلات وتهجر سكان القرى من أجل بناء المستوطنات فلا جدوى من الحوار معها، وهنا يلتقي القسام مع طروحات حزب الاستقلال، ورأى أن الحل الوحيد هو مقاومتها بالسلاح ومحاربتها.

قبل حركة القسام لم يكن هنالك عمل مسلح منظم لمقاومة الحركة الصهيونية أو الاحتلال البريطاني، بل كان هنالك ردات فعل جماهيرية، وهبات سرعان ما تخمد، وكان هنالك أفراد يصبحون مطلوبين للأمن البريطاني لسبب أو آخر فيلجأون إلى الجبال والأرياف ويحملون السلاح، مثل عصابة الكف الأخضر التي تزعمها أحمد طافش، والذي عمل في منطقة الجليل، بعد مشاركته بثورة البراق عام 1929م (وهي بحد ذاتها كانت انتفاضة عفوية وليس عملاً منظماً) وبعد أن صدرت أوامر بالقبض عليه.

جاء القسام بفكرة جديدة على زمنه، وهي العمل المقاوم المسلح المنظم، وحمل السلاح كخيار وليس كردة فعل أو كاضطرار، كما آمن القسام أن نجاح أي ثورة مسلحة يحتاج لإعداد جيد، فكانت أولى خطواته هي مرحلة الإعداد والتجهيز. وابتداءً من عام 1929م بدأ بتأسيس خلايا عسكرية للتدرب على السلاح، وكانت مجموعته مكونة من خمس وحدات: وحدة الدعوة، ووحدة الاتصالات السياسية، ووحدة التدريب، ووحدة التجسس وجمع المعلومات، ووحدة جمع التبرعات.

كانت مجموعة القسام تتكون من خلايا لا يتجاوز عدد أفراد الخلية الواحدة عن الخمسة أفراد، وكان كل عضو يسهم بمبلغ من المال حسب طاقته، وبلغ عدد الذين دربهم القسام حتى وقت استشهاده ما يقارب من المئتي رجل، كانوا محرك ووقود ثورة عام 1936م، بل لا نبالغ عندما نقول أن القسام بعمله هذا أسس لكل ما تلاه من ثورات وحركات في التاريخ الفلسطيني الحديث ابتداء من ثورة عام 1936م، مروراً بانطلاقة حركة فتح ومعركة الكرامة وحرب البيارات في غزة والانتفاضة الأولى وانتفاضة النفق، وأخيراً وليس آخراً انتفاضة الأقصى وحرب الفرقان، ويمكن القول أن كل من حمل السلاح مقاوماً ومحارباً للمشروع الصهيوني يدين للقسام الذي كانت البداية من عنده.

نتابع في الجزء الثاني القسام مجاهداً وشهيداً بإذنه تعالى.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الف مبارك المدونة ، في ميزان حسناتك ان شاء الله ..