الاثنين، 22 نوفمبر 2010

مجزرة مسجد فلسطين: ذاكرة الناس القصيرة

مرت علينا قبل ايام قليلة ذكرى مذبحة مسجد فلسطين في مدينة غزة، والتي ارتكبتها الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة ياسر عرفات في 18/11/1994م، وربما أكثر قراء هذا المقال كانوا وقتها ما زالوا اطفالاً، ولسنا بصدد استحضار آلام الماضي أو نكأ الجراح، لكن من المفيد العودة إلى التاريخ لنفهم واقعنا بطريقة أفضل.

ظروف وملابسات المجزرة:

في 2/11/1994م: اغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي الشهيد هاني عابد على أيدي المحتل الصهيوني، بالرغم من أن قطاع غزة أصبح تحت سيطرة سلطة الحكم الذاتي قبلها بستة شهور.

في 11/11/1994م: الاستشهادي هشام حمد من الجناح العسكري للجهاد الإسلامي (والذي كان يسمى "قسم" وقتها) يفجر نفسه وسط جنود الاحتلال قرب مستوطنة نتساريم مما أدى لوقوع عدد من الجرحى والقتلى في صفوفهم.

جن جنون سلطة عرفات لأن العملية استهدفت "التزاماتها" تجاه المحتل الصهيوني، وشنت حملة اعتقالات، ومنعت حركة الجهاد الإسلامي من تشييع الشهيد بجنازة كبيرة تليق به، حتى لا تظهر السلطة وكأنها تقبل بما يسمى "الإرهاب"، فدعت حركة حماس إلى مسيرة بعد صلاة يوم الجمعة 18/11/1994م تضامناً مع حركة الجهاد الإسلامي وتأييداً للعمل البطولي الذي قام به الشهيد.

في 18/11/1994م: كان مسجد فلسطين أحد أكبر مساجد مدينة غزة المكان المقرر لانطلاق المسيرة بعد خطبة وصلاة الجمعة، واستنفرت أجهزة أمن السلطة وأقامت الحواجز على الطرق المؤدية للمسجد، مع ذلك حضر المئات والالاف للمسجد الذي امتلأ بالمصلين وامتلأت ساحته والساحة المجاورة بالمصلين الذين جاءوا من كافة المناطق.

ألقيت خطبة الجمعة وأديت الصلاة بشكل طبيعي، وأثناء الصلاة طوق رجال الأمن المصلين حول المسجد، وما أن انتهت الصلاة وبعيد التسليمة الثانية بدأ اطلاق النار من قبل الأجهزة الأمنية وأكثر المصلين لم يصلوا ركعتي السنة بعد، استشهد 17 من المصلين وأصيب العشرات بجراح مختلفة، واكتظت مستشفيات القطاع بهم، وامتدت المواجهات بعدها لمناطق أخرى لكن أغلب الشهداء والجرحى وقعوا في المسجد.

وبما أن المجزرة وقعت في عصر بدايات الانترنت وما قبل اليوتيوب، فلم توثق المجزرة بالشكل الذي تستحق، وماتت في ذاكرة الكثيرين ممن عاصروها وجهلها أكثر من لم يعاصرها، وقمت بالبحث على الانترنت عن فيديو يوثق للمجزرة فوجدت الرابط أدناه، وهو شريط مدته 25 دقيقة، وتظهر في الدقائق الأولى صور خطبة الجمعة ونلحظ أنها خطبة تقليدية دعا خلالها الخطيب إلى الوحدة الوطنية، ثم يظهر المصلون داخل وخارج المسجد أثناء أداء الصلاة، ونرى رجال الشرطة وهم يتحركون ويحاصرون المصلين أثناء أداء الصلاة.

ثم يظهر الفيديو المواجهات في بداياتها، وإن لم يكن قد وضح كيف اندلعت شرارة المواجهة بالضبط، لكن كان واضحاً أن المصلين كانوا ما زالوا في المسجد لم يخرجوا منه، ونرى كيف أن سلاح المصلين الوحيد كان الحجارة التي يردون فيها على اطلاق النيران الحية، ونسمع طوال الشريط الناس وهم يرددون كلمات: "عملاء"، و"مثل اليهود" في إشارة للأجهزة الأمنية، نعم لقد نجحت هذه الأجهزة بترسيخ في ذهن الناس أنهم عملاء للاحتلال منذ الشهور الأولى لقدوم السلطة الفلسطينية.

ويظهر الفيديو في الدقيقة 8 والثانية 30 صورة أحد الجرحى وهو مصاب برصاصة من الخلف، وعند الدقيقة 11 والثانية 58 نشاهد اثنين من الشباب وهما يصابان بالرصاص عن بعد أثناء هروبهما من اطلاق النار، وهذا أن دل على شيء فيدل على أن اطلاق النار كان عشوائياً في أحسن الأحوال ولم يكن "دفاعاً عن النفس".

وابتداءً من الدقيقة 13 والثانية 15 نرى مشاهد من داخل مستشفى الشفاء ونرى المكان وقد اكتظ بكافة أنواع وأشكال الإصابات، ولكثرة المصابين كان الكثير منهم ممداً على الأرض يتلقى العلاج، وفي الدقيقة 18 والثانية 40 نرى احدى دوريات حرس الرئاسة وهي تمر بشكل مستفز أمام المستشفى مما أدى لتجدد المواجهات ولحدوث فوضى وهرج، وفي الدقيقة 20 و42 ثانية نرى أحد رجال الأمن بالزي المدني وهو يركض بين المتظاهرين، ويبدو أنه كان ضل طريقه، ومن الملفت أن المتظاهرين لم يمسوه بأذى بل اكتفى بعضهم بالصراخ عليه فيما عمل آخرون على توفير الحماية له حتى وصل للطرف الآخر حيث يوجد رجال أمن بلباس رسمي ومدني، وبعد وصوله للطرف الآخر نسمع اطلاق نار كثيف من قبل أجهزة الأمن تجاه المتظاهرين.

العبر المستفادة بعد ستة عشر عاماً:

الناس وبكل أسف ذاكرتها قصيرة، وكلما ذكر اليوم شيء عن تصرفات السلطة قيل أن الانقسام الفلسطيني هو السبب، وكلما ذكرت جرائم السلطة في الضفة قيل لنا أن هذا كان رداً على ما قامت بها حماس في غزة، حسناً هذا دليل حي على أن جرائم السلطة سبقت الانقسام الفلسطيني بثلاثة عشر عاماً، وهذا دليل على أن السلطة تقوم بما تقوم به لمرضاة الصهاينة ولاثبات "حسن نيتها"، لذا نرجو من الذين يحملون جهتي الانقسام مسؤولية الوضع الحالي أن يستحضروا في أذهانهم صورة مجزرة مسجد فلسطين، وليقولوا لنا هل كان الوضع السابق أفضل من الوضع الحالي؟ ألم تكن التجاوزات والجرائم ترتكب قبل دخول حماس الانتخابات وقبل الانقسام الفلسطيني؟
 

تثبت حادثة مجزرة مسجد فلسطين أن بوصلة السلطة الفلسطينية تحددها دوماً ما تسمى بالتزاماتها تجاه المحتل الصهيوني، وهذا ليس بالتصرف المتوقع من حركة تحرر وطني، ولا من منظمة تسمي نفسها "منظمة التحرير الفلسطينية"، فكيف يأتي التحرير واستراتيجيتنا الأبدية هي الدفاع عن أمن الصهاينة والحفاظ عن مشاعرهم، فالمسيرة التي قمعت قبل أن تنطلق وسالت دماء المصلين كي لا تقوم لها قائمة كانت ستجرح مشاعر الصهاينة فقط لا غير، لم تكن لتؤذيهم جسدياً.

اعتبرت السلطة العمليات الاستشهادية والمسيرة بأنها تخريب على جهودها، وطلبت أن تعطى مهلة لانجاح اتفاقية أوسلو، بالرغم من أنها وقعت وفرضت على الشعب الفلسطيني دون أن يؤخذ رأيه، وحينها طالبت حماس بالاستفتاء على اتفاقية أوسلو، ورفضت منظمة التحرير لأنها تدري ما النتيجة ستكون، نعم هذا صحيح حماس طالبت بالاستفتاء في تلك الأيام وليتذكر هذا الجميع عندما يصرح أحد قيادات حماس مستقبلاً بأنه يقبل باستفتاء ما، لأنه كلما خرج مثل هذا التصريح تبدأ اللطميات التي تقول أن حماس تغيرت بعد دخولها الانتخابات، حسناً حماس من يومها وهي تقبل بالاستفتاء فرجاءً صححوا معلوماتكم.

ردود الفعل:

فضلت حماس العض على الجراح وتجاوز الحدث لأن بوصلتها كانت تجاه الاحتلال الصهيوني، وكانت ردود فعلها دوماً تجاه المحتل الصهيوني، إلا أن المجزرة أثرت في أبناء فتح والكثير من مؤيديها، ومن بين من أثرت فيهم الشهيد خليل الشريف وقد كان منسق عام حركة الشبيبة الفتحاوية في جامعة بيرزيت، وقد ترك حركة فتح أثر المجزرة وانضم لاحقاً لحماس وكتائب القسام، وكان مشاركاً بعملية ضد عدد من المستوطنين قرب رام الله مما أدى لمقتل اثنين منهم، وأثناء العملية انقلبت السيارة التي نفذوا بها العملية واضطروا للخروج منها وقد نسي أحد كراساته وراءه مما أدى لانكشافه وأصبح مطلوباً لكل من السلطة والصهاينة، إلى أن كان أحد منفذي العملية الاستشهادية الثلاثية في شارع بن يهودا عام 1997م.

نذكر الشهيد خليل الشريف لكي يكون قدوة لكل من أبناء فتح وحماس، قدوة لأبناء فتح كي لا يقبلوا بالعار الذي يعيشوه وأن تكون لهم كلمة، ونذكر هنا أحد أبطال فتح الذين ساروا على درب محو عار التنسيق الأمني وهو الأسير محمد الخطيب من بلدة يعبد، وهو ضابط شرطة سابق في أجهزة دايتون الأمنية، قرر أن لا يكون جزءاً من مهزلة التنسيق الأمني وأحيل على التقاعد المبكر، وخرج في 10/2/2010م إلى حاجز زعترة وقام بذبح أحد الجنود الصهاينة بسكين كان يحمله.

والشهيد خليل الشريف هو قدوة أيضاً لأبناء حماس لأنه كان مطارداً لكل من الصهاينة والسلطة لكنه لم يكل ولم يستسلم ولم يبك ولم يضعف، واستمر بالعمل مع خلية عصيرة الشمالية القسامية لأكثر من ثلاث سنوات، لم ينتظر النصرة من قيادة حماس التي كانت جميعها (في الضفة وغزة) معتقلة أو محاصرة، ولم ينتظر مصالحة لكي يخف الضغط عنه، لأن السلطة كانت تعتبر حقها مطاردته ومطاردة أي مقاوم دون أن يحق لحماس مجرد الاعتراض، فمن يخرج في سبيل الله لا ينتظر النصرة من البشر مهما كان أولئك البشر.

ملاحظة على الهامش:

قد يشبه البعض ما حصل في مسجد فلسطين بأحداث مسجد ابن تيمية، ويقول هذا مسجد وهذا مسجد، وهنا هجوم وهناك هجوم، وهنا سقط قتلى وهناك سقط قتلى، حسناً هذه مقارنة غير سليمة ولا تستقيم، ففي مسجد فلسطين لم يكن أحداً مسلحاً داخله، فيما قد رأينا جميعاً كيف كان مسجد ابن تيمية يعج بالمسلحين، بل خلال الخطبة كان الشباب يحيطون بالخطيب وهم يلبسون الأحزمة الناسفة، في مسجد فلسطين أطلق النار والمصلين ما زالوا داخله بينما في مسجد ابن تيمية كان الجميع قد غادر وبقي المسلحون، وفي مسجد فلسطين جميع من قتلوا من المصلين، بينما في مسجد ابن تيمية قتل من رجال الأمن ومن المواطنين الذين يسكنون بمحيط المسجد ومن المسلحين أنفسهم، في مسجد فلسطين قمع لمسيرة سلمية كانت ستخرج نصرة للعمليات الاستشهادية ضد اليهود، وفي مسجد ابن تيمية تمرد وعصيان عسكري لإقامة حكومة تنافس الحكومة الشرعية.

ربما ارتكبت حماس أخطاء في مسجد ابن تيمية، ولسنا بصدد مناقشتها، ولا أحد منزه عن الخطأ، لكن ما أردنا توضيحه في هذه الذكرى أن آفة السلطة منذ انطلاقتها هي التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني وما تسمى بالتزاماتها الأمنية، وما دامت هذه الآفة موجودة فلن يستقيم الوضع الداخلي الفلسطيني ولو عقدت مليون جلسة مصالحة. 

*ملاحظة (31/7/2016) الفيديو الأصلي محذوف وهذا فيديو بديل لكنه مختصر وغير كامل:



سلطة عباس - فياض: قصة نجاح صهيونية


تقف المصالحة بين حركتي فتح وحماس عند عقبة كأداء ألا وهي الملف الأمني، وفي حين تنازل الطرفين في كافة الملفات ووصلوا إلى نقاط التقاء، إلا أنه وعندما يتعلق الأمر بالأجهزة الأمنية فلدى حركة فتح خطوط حمراء، وهي لا تتعلق بترتيبات الوضع الداخلي الفلسطيني، بل تتعلق بما يسمى "التزامات السلطة"، التزامات اتفاقية أوسلو والتزامات خارطة الطريق.

ومن المفارقات أنه في الوقت الذي تتمسك السلطة بأوسلو وخارطة الطريق، وتطبقهما بحذافيرهما، وتعرض المصالحة للخطر الداهم بسبب إصرارها على التمسك بالتزاماتها، فإنها لا تطالب الصهاينة بالالتزام بما عليهم (باستثناء كلام اعلامي لا رصيد له)، بل توافق ضمنياً على خروقات الصهاينة لاتفاقية أوسلو والتزامات خارطة الطريق.

فعلى سبيل المثال تنص خارطة الطريق على وقف الصهاينة للاستيطان مقابل محاربة السلطة للـ "إرهاب"، لكن ما نراه اليوم أن تجميد الاستيطان (وليس وقفه) هو مادة للتفاوض، والصهاينة يريدون مقابل له (مع أنه حسب خارطة الطريق فقد أخذوا المقابل منذ زمن).

أما إتفاقية أوسلو فهي اتفاقية مؤقتة كان يجب أن تحل مكانها اتفاقية "دائمة" عام 1999م، لكنها ما زالت لليوم شماعة تعلق عليها السلطة كل ما تريد تمريره من تنازلات، مع التغاضي عن خروق الاحتلال للإتفاقية، فمثلاً الترتيبات الأمنية حسب أوسلو تتضمن عدم دخول الصهاينة للمناطق أ إلا ضمن دوريات مشتركة تسير في شوارع محددة أو من خلال "المطاردة الساخنة" لمقاومين، لكن عندما استعادت السلطة "سيطرتها" على مناطق (أ) وافقت على شرط الاحتلال بسحب قواتها ليلاً لكي تمكن لقوات الاحتلال دخول المدن متى شاءت.

فما الذي دفع السلطة للقبول بهذا الواقع؟ لماذا تقبل بتخريب المصالحة من أجل اتفاقيات تلتزم بها من جانب واحد، ودون "أي مقابل"، هل ما نراه وضع طبيعي؟ هل هو امتداد لسلطة أوسلو التي أسسها ياسر عرفات؟ وأين هي مناورات عرفات المعهودة عندما كان يصعد الوضع على الأرض كلما أحس أن الصهاينة يتلكأون بالالتزام بتعهداتهم؟

ما نراه اليوم في الضفة الغربية هو قصة نجاح صهيونية بامتياز، قصة تدجين السلطة وترويضها واحتوائها، بدأت منذ عملية "الجدار الواقي" عام 2002م ومروراً بحصار عرفات في المقاطعة، وانتهاء بالرسالة التي أوصلها قادة الأجهزة الأمنية إلى عزام الأحمد قبل ذهابه إلى دمشق أن العودة للمواجهة مع الاحتلال في الضفة الغربية هي خط أحمر لا يمكن القبول بها مهما كانت الأسباب، وتصريحات الناطق باسم شرطة دايتون عدنان الضميري أن عناصر حماس يتم اعتقالهم لأنهم يهددون "التزامات السلطة" الأمر الذي اعتبره اسهتدافاً للسلطة نفسها.

وهنا سنحاول تلخيص سلسلة الخطوات والأحداث التي حصلت في السنوات الثمانية الأخيرة، والتي انتجت لنا قصة النجاح الصهيونية في الضفة الغربية:


1- هنالك مبدأ في العقيدة الأمنية الصهيونية يسمى "كي الوعي"، أي الرد على أي مقاومة عربية بعنف وقسوة مبالغ فيها حتى يصل الطرف المقابل إلى مرحلة منع أي شخص يفكر بمهاجمة الصهاينة حتى لا يعم الضرر على الجميع وتخوين كل من يهاجم الاحتلال، وتكلم موشية يعالون رئيس أركان جيش الاحتلال عام 2003 عن ضرورة "كي وعي الفلسطينيين"، وهو ما كان ممارساً قبل ذلك من خلال الضربات العسكرية لمقرات الأجهزة الأمنية، فكانت رسالة الصهاينة للسلطة وللأجهزة أنكم لا تقومون بمنع عمليات المقاومة لذا يجب أن تدفعوا الثمن (بسبب عدم المنع).

2- لكن عرفات استمر بالمراوغة، وكان يحاول الامساك بالعصا من المنتصف مما أعطى المجال للمقاومة من أجل الاستمرار بالعمليات الاستشهادية ورفع وتيرتها، بحيث وصل الصهاينة في نهاية المطاف إلى قناعة أنه يجب إزاحة نهج عرفات المراوغ من الطريق، وانتهاج استراتيجية جديدة لضرب المقاومة وتحجيمها.

3- ابتداء من نيسان – 2002م (عملية الجدار الواقي) وحتى عام 2004م شنت عمليات عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية من أجل ضرب خلايا المقاومة العسكرية، وتصفية قادة المقاومة، من كافة التنظيمات والأطياف السياسية، وبدأت عملية تفريغ الضفة من الأجهزة العسكرية الضاربة.

4- بدأ حصار ياسر عرفات بشكل مشدد منذ عام 2003م وصولاً إلى وفاته (أو اغتياله) عام 2004م، وهي لم تكن عملية للتخلص من شخص مزعج فحسب، بل ليكون عبرة لمن يخلفه، وما زال ما حصل له يخيم في ذاكرة السلطة وحركة فتح، والخوف من تكرار ما حصل معه يدفع عباس وفياض وقادة الأجهزة الأمنية لهذه التصرفات الغريبة والمستهجنة.

5- منذ توليه رئاسة السلطة حاول محمود عباس نزع سلاح المقاومة، وفي البداية طرح على الأمريكان احتواء حماس ونزع سلاحها من خلال ادماجها بالعملية السياسية، وحتى يستدرجها طلب منها أكثر من هدنة في العام 2003م (أثناء رئاسته للوزراء) والعام 2005م، وكان ينوي الاستمرار ليصل إلى مطلب نزع سلاحها بالكامل (هي وكافة فصائل المقاومة). كان عباس نموذجاً للقيادة الفلسطينية الجديدة التي طالب بها الأمريكان.

6- في موازاة جهود محمود عباس اعتمد الصهاينة على سلسلة من الخطوات الاضافية ابتداء ببناء جدار الفصل العنصري، وتلا ذلك البدء بحملة اعتقالات واسعة النطاق بحق نشطاء حماس في الضفة الغربية أواخر عام 2005م، طالت قطاعاً واسعاً من نشطاء الحركة بما فيهم نشطاء قدماء ونشطاء انقطعوا عن العمل منذ سنوات، وأطلق المعتقلون عليها تندراً حملة "نبش القبور"، لكنها في الحقيقة كانت قراراً استراتيجياً صهيونياً بضرب البنية التحتية لحركة حماس في الضفة الغربية ومطاردة مؤسساتها المدنية ومصادر تمويلها، وعدم اعطاء حماس الفرصة لالتقاط الأنفاس.

7- بعد انتخابات عام 2006م وتشكيل حماس للحكومة لم يعد بالإمكان الاستمرار بمخطط محمود عباس، لأن الحركة لم تقبل الخضوع لسياسة الاحتواء بل حاولت جر السلطة إلى مربعها هي، وتم تحريض حركة فتح لإفشال تجربة حركة حماس وفق سياسة "الفوضى الخلاقة" حسب تعبير كونداليزا رايس، وحوصرت الحكومة مالياً لكي تعجز عن دفع الرواتب، وبدأت الأمور بمناكفات حزبية لكنها انتهت إلى زرع قناعة في وعي القاعدة الفتحاوية بأن الراتب رهينة بيد الاحتلال الصهيوني، لذا نجد اليوم الاشاعات تخرج بأن السلطة تمر بأزمة مالية قبل كل جولة مفاوضات للسلطة مع الكيان الصهيوني، وذلك لقتل كل معارضة لهذه المفاوضات من خلال الايحاء "إذا لم تذهب السلطة للمفاوضات سيتكرر ما حصل مع حماس."

8- عندما وصل سلام فياض لرئاسة الحكومة بعد الانقسام عام 2007م بدأ بسلسلة تغييرات جوهرية على بنية حركة فتح والسلطة، فقام باحالة أكثر من أربعة آلاف ضابط من الأجهزة الأمنية على التقاعد المبكر وبشروط مغرية، والقاسم المشترك بينهم أنهم أعضاء من حركة فتح يمثلون العهد السابق (عهد عرفات) بمعنى آخر يوجد خطر من تكرار تجربة بداية انتفاضة الأقصى وحملهم السلاح ضد الصهاينة، وبدأ بالتنسيق مع الأمريكان والصهاينة من أجل إعادة بناء الأجهزة من جديد.

9- وهنا أتى دور الجنرال الأمريكي دايتون، وحتى نفهم دوره بالشكل الصحيح، فدايتون "الرجل" جاء من أجل تدريب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإعادة بناءها من ناحية فنية ومهنية، وهو لا يتخذ قرارات الاعتقال ولا يشرف مباشرة على رسم سياسات الأجهزة الأمنية، لكن حتى يعاد تشكيل عقيدة الأجهزة الأمنية تم "خلق" شماعة اسمها دايتون، فحتى لا يعترض ضباط ومنتسبي الأجهزة على القرارات التي تخالف قناعاتهم الوطنية أو الدينية يقال لهم "هذه أوامر دايتون"، ويحوم في ذهنهم مصير عرفات الذي "اغضب الأمريكان"، ومرحلة "قطع الرواتب"، فيقبلون القيام بالمهمات القذرة ويقنعون أنفسهم بأنهم "مضطرين"، فتم خلق أجهزة أمنية جديدة فبدلاً من الفتحاوي المتمرد على الأوامر والذي يعمل ما يحلو له أصبح الفتحاوي منضبطاً لا يخالف الأوامر ما دامت "صادرة" عن دايتون.

10- في موازاة ذلك بدأت حملة تهيئة نفسية لقاعدة فتح الشعبية، وقد أصبحت مهيأة لقبول الكثير من الأمور، فأصبحت الحرب مع حماس هي المعركة المصيرية، وأصبح كل شيء يمرر على أنه من متطلبات الحرب مع حماس، ومن أجل تبرير التعامل مع العدو الصهيوني تم الحرص على إبراز حماس كعميل لإيران "العدو العقائدي"، و"ما فيه حدا أحسن من حدا" و"نحن عملاء وهم عملاء" وهو ما يسمى في علم النفس الاسقاط؛ أي أن تسقط عيوبك على الآخرين حتى تبرر لنفسك ما تقوم به، وإذا سألتم لصاً يوماً لماذا تسرق فستكون إجابته "كل الناس حرامية".

11- بدأ الصهاينة بعدها بتسليم الأجهزة التابعة للسلطة مهمات للقيام بها بشكل تدريجي حتى يتاكدوا من التزامها بمعايير محددة تثبت "كفاءتها"، وكلما أثبتوا كفاءتهم كلفوهم بمهمة جديدة وهكذا، وحتى يعطوهم شعوراً بالانجاز وحافزية يسمون المهمات بتسليم السيطرة الأمنية للسلطة، علماً بأنها تسمية فارغة المضمون لأن السيطرة النهائية هي لجيش الاحتلال الذي يحتفظ بحقه في التدخل متى شاء، لكن يتم تغليفها بمسمى براق لكي يشعر قادة الأجهزة الأمنية أن لديهم "ما يخسرونه" وبالتالي يحرصوا على السير قدماً في إثبات "كفاءتهم" للصهاينة.

12- وصلنا إلى مرحلة تمكن الصهاينة ترويض الأجهزة الأمنية، وإعادة تشكيل تفكير القائمين عليها بحيث يعرفوا ما "المطوب" منهم بدون أن يقول لهم أحد أو (يفهموها على الطاير) كما هو التعبير الشعبي، وبالتالي الحديث عن المصالحة مع حماس يستحضر عدة هواجس لدى الأجهزة الأمنية: حماس عدو، وحماس لها "أجندة خارجية"، والمصالحة مع حماس تعني الاخلال بالتزامات السلطة تجاه "الطرف الآخر" – أي الصهاينة، والمصالحة تعني عودة الحصار وتكرار مأساة قطع الرواتب وما حصل لعرفات.

13- فهكذا نجد الأجهزة الأمنية ومنظومتها تبدأ العمل كلما اقترب الحديث عن جلسات للمصالحة: تصعد من اعتقالاتها لمؤيدي حماس وتخترع قصصاً عن مؤامرات حمساوية لاغتيال مسؤولين في السلطة، تبدأ ببث الاشاعات عن تهديدات صهيونية بإعادة احتلال الضفة في حال تم التوصل لمصالحة (وكأنه الضفة ليست محتلة أصلاً)، وتحاول التمسك بشكليات تافهة (مثل مكان انعقاد جلسة الحوار)، ففتح والسلطة لا تجرؤ اليوم على التفكير بمصالحة مع حماس، ما لم تتضمن هذه المصالحة جر حماس إلى مربع ارتباطات فتح الأمنية وبالتالي الحصول على مباركة صهيونية وأمريكية.