السبت، 29 يناير 2011

عندما تعلم مبارك الدروس الخاطئة من الثورة التونسية

تسببت ثورة الشعب التونسي بزلزال كبير في المنطقة، ما زالت آثاره بعيدة المدى غير واضحة، وثورة الشعب المصري هي واحدة من النتائج المباشرة لما حصل في تونس، فمنذ لحظة هروب بن علي كان النظام المصري يشعر بالخطر القادم، وأتخذ اجراءات عدة ظناً منه أنها يمكن أن تحصنه واعتقاداً من القائمين على رسم سياسات النظام أنهم استخلصوا الدرس جيداً، فكانت قرارات بدعم الأسعار وعدم استفزاز الشعب بتصريحات الوزراء وغير ذلك من الخطوات التي لم تلمس المشكلة الحقيقية.

الدرس الخاطئ الأول: المشكلة هي اقتصادية

أهم الدروس الخاطئة هي تصور أن الثورة التونسية سببها الأصلي كان اقتصادياً، وكان الكلام عن البطالة وعن الفقر وما إلى ذلك، ما لم يدركه مبارك وما لم يدركه الكثيرون أن الناس تتحمل الفقر إذا لم يرافق ذلك الشعور بالظلم وإذا لم يكن فقرها نتيجة سرقة مقدراتها ونهبها.

الاجراءات الاقتصادية التي اتخذت على امتداد الوطن العربي لا تقدم كثيراً، لأنها كلها تمحورت حول دعم أسعار المنتجات أو الخدمات المقدمة للمواطنين، وذلك لسببين: لأن المشكلة ليست اقتصادية، ولأن هذه الإجراءات لا تؤدي إلى تنمية اقتصادية حقيقية ولا تبني اقتصاد قوي ومتين، بل هي مجرد تأجيل للأزمة لأن هذا الدعم سيكون على حساب مشاريع التنمية أو سيكون ديناً على الخزينة العامة سيترتب على الأجيال القادمة دفعه.

كان الأجدر الاستثمار بمحاربة الفساد والرشوة والاختلاسات، فهذه أكبر عبء اقتصادي على الدول العربية، وهي تقف على رأس أسباب هروب الاستثمارات المحلية والأجنبية من العالم العربي، فبدلاً من إلهاء الشعوب بدعم أسعار المحروقات أو أسعار المواد الغذائية، كان الأجدر محاربة رؤوس الفساد ورموز "رأسمالية الحبايب والقرايب" كما سماها المفكر عزمي بشارة.

لكن نظام حسني مبارك فضل عدم مواجهة المشاكل الحقيقية والأساسية واتجه إلى معالجات جانبية وشكلية لم تقنع أحداً. وبدأ نشطاء الفيسبوك والانترنت بتنظيم يوم الغضب في 25/1، وتعامل النظام باستهتار نسبي مع الأمر ورفض مقارنة الوضع في مصر مع ما حصل بتونس، وسمعنا كلام أن تونس بلد صغير أما مصر 80 مليوناً (نسوا أن أندونيسيا كانت 200 مليون عندما أطيح بسوهارتو)، وأن مصر يوجد فيها حرية تعبير أفضل نسبياً من تونس، وأن مستوى التعليم في مصر أقل من مستوى التعليم بتونس، وغيرها من الكلام المخادع للذات.

الدرس الخاطئ الثاني: اسمحوا للناس التنفيس عن غضبهم

وقرر النظام المصري السماح لمظاهرات يوم الثلاثاء، على أن تكون مسيرات ليوم واحد من أجل تنفيس الاحتقان، ولكي يعبر الناس عن رأيهم بحرية ويذهبوا بعدها إلى بيوتهم، لكن ما لم يدركه النظام المصري أن من خرجوا لم يخرجوا ليقولوا كلمتهم ويعودوا بعدها للمنزل، أرادوا فرض إرادتهم، أرادوا أن تكون لكلمتهم ترجمة على أرض الواقع، لقد أصبحت الديموقراطية على الطريقة العربية - ديموقراطية "شاوروهم وخالفوهم" من مخلفات الماضي بعد الثورة التونسية، لم يعد يرضي المواطن العربي أن يكتفي بقول كلمته دون أن يستمع له أحد، يريد أن يكون شريكاً باتخاذ القرار، لقد ولى زمن احتكار حفنة من الأفراد مصائر بلدان بأكملها وملايين البشر.

الدرس الخاطئ الثالث: قوموا بتغيير بعض الوجوه

وبدء الكلام اليوم عن وعود بتغييرات في الحكومة المصرية وإقالة رئيس الوزراء، وهذا لم يقنع أحداً فما يحتاج للتغيير برأي الناس هو رأس النظام المتربع على رئاسة مصر لأكثر من ثلاثين عاماً، هذا الدرس الأهم الذي لا يريد أحد من الزعماء العرب أن يعترف به، كل الكلام في الأيام الماضية عن تفهم مطالب المتظاهرين ورغبتهم بحرية التعبير والحصول على عمل لكن لم يتكلم أحد من النظام عن احترام الرغبة الأهم للمتظاهرين وهي رحيل رأس النظام.

الدرس الخاطئ الرابع: احجبوا الانترنت وأوقفوا الاتصالات

كما قام النظام المصري بحجب خدمات الانترنت الهواتف الخليوية صباح الجمعة، من أجل تعطيل عمليات التنسيق للمظاهرات لكنها خطوة متأخرة للغاية لأن ماكنة التغيير بدأت بالحركة، ولم يعد بالإمكان إيقافها، وهنا يجب أن ندرك جميعاً أن هنالك عصر جديد، عصر تدرك به الجماهير العربية قوتها العظيمة والهائلة.

وانطلقت ماكنة التغيير:

نحن نتكلم عن ماكنة مخيفة وآلة تغيير لا يقف أمامها أي شيء لا نظام ولا تدابير أمنية ولا مناورات ولا مؤامرات أمريكية، نظام بن علي أخذ على حين غرة ولم يكن مستعداً للتعامل مع حصل، سقط بضربة قاضية ومفاجئة، لكن نظام مبارك رأى الضربة قادمة، وحاول قدر الإمكان تفادي حصولها، وخطط ورسم ودبر لكن في النهاية لم يستطع فعل أي شيء، وتحقق أسوأ كوابيسه.

مظاهرات الجمعة كانت إيذاناً بانطلاق هذه الماكنة الضخمة، ماكنة التغيير ومثلما حصل في تونس فلن تتوقف الماكنة حتى رحيل مبارك ورحيل حزبه الحاكم وقيام نظام تعددي مصري حقيقي، كان بإمكان مبارك فرصة لتدارك الأمور ويعلن عن نيته بعدم الترشح للرئاسة لا هو ولا ابنه، وعن حل مجلس الشعب، وعن وضع قانون انتخابات حقيقي ونزيه، وعن فصل الدولة عن الحزب الحاكم، فقد كان الأجدر بمبارك مخاطبة شعبه قبل أسبوع وأن يضع هذه الوعود أمام الناس، لربما تدارك الأمور، لكن الآن نقول له: (ولات حين مندم).

ما يجب علينا جميعاً تعلمه هو أن الاصلاح في العالم العربي أصبح من الحتميات، وأن الإصلاح غير ممكن بدون ثلاث إجراءات أساسية:

1- إنشاء نظام تعددي حقيقي، لا يستطيع المواطن التعبير عن رأيه فيه فحسب، بل أن يكون شريكاً باتخاذ القرار.
2- وضع حد أقصى لبقاء الشخص على قمة هرم الدولة، لا يجوز ولا يقبل أن يبقى رئيس لمدة عشرين وثلاثين وأربعين عاماً، حتى لو حرر هذا الرئيس فلسطين وازدهر الاقتصاد في عصره، أصبح البقاء الأبدي في الحكم من مخلفات الماضي، وما جمع الشعبين المصري والتونسي هو فكرة واحدة: الرئيس طال أمده على كرسي ويجب إزاحته، هذه الفكرة هي التي حركت الماكنة الشعبية المخيفة والتي تمكنت من حشد الملايين في الشوارع.
3- محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية يجب أن تكون أولوية أولى، ولا تنمية اقتصادية ولا استقرار سياسي ولا استقرار نظام بدون محاربة أشكال الفساد الحكومي وتقزيمها وحصرها.


ما يحدث في مصر ظاهرة مثيرة للاهتمام يجب أن يدرسها علماء الاجتماع والسياسة بشكل معمق، فهي أول ثورة يبدأ تنظيمها من على الانترنت (على عكس تونس التي بدأت الثورة على الأرض وكان الانترنت وسيلة داعمة)، وهي أول ثورة تبدأ عن سبق إصرار وترصد، كان هنالك قرار ورغبة عارمة من أجل تكرار التجربة التونسية ترجمت أفعالاً على الأرض، والثورات عادة لا تحصل هكذا، الثورات يصعب التنبؤ ببداياتها، لكننا جميعنا رأينا الثورة قادمة، والنظام المصري رآها قادماً لكنه لم يدرك درس الثورة التونسية.

عصابة بن علي رحلت بعد ثلاث وعشرين عاماً فمتى ترحل عصابة رام الله؟

ما زالت قضية الوثائق التي كشفتها الجزيرة تتفاعل دون أن تأخذ حظها من الدراسة والتحليل، كما ما زالت ردود الفعل تتوالى على الساحة الفلسطينية، وبشكل عام فما كشف عنه لم يكن مفاجئاً والكثير منه كان معروفاً بطريقة أو أخرى سواء من خلال تسريبات صحفية أو حتى عبر تصريحات رسمية لقادة السلطة ومفاوضيها.

مع ذلك ففي طيات هذه الوثائق وجدنا بعض التفاصيل الصغيرة والخطيرة التي تكشف مدى التنازلات العظيمة التي قدمتها السلطة على طبق من ذهب إلى الصهاينة، كان أبطالها بالدرجة الأولى صائب عريقات وياسر عبد ربه وأحمد قريع، وتعامل مسؤولي السلطة مع هذه الوثائق بقدر كبير من الارتباك بين تأكيد لصحتها والتوعد لمسربيها بالويل والثبور، وبين الزعم بأنه تم تحوير بعض ما جاء بها، وبين الاكتفاء بالتشكيك بوقتها وبدوافع من سربها.

ومثل كل مرة نؤكد أنه لا التوقيت ولا شخصية المسرب يهم ما دامت الوثائق صحيحة، ومن لا يريد أن يتكلم عنه الناس بسوء يجب أن لا يرتكب الجريمة عن سبق إصرار وترصد، أما أن يرتكب الموبقات السبع وبعدها يطلب من الناس التستر عليه فهذا ما لا يجوز ولا يقبله عاقل.

التنازلات ومعرفتنا بها ليست جديدة، والكثيرين لم يتفاجئوا ببساطة لأن هذا كلام نسمعه بطريقة أو بأخرى منذ أكثر من عشرين عاماً هو عمر التفاوض بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني، والسؤال الذي يطرح نفسه على عريقات وعبد ربه وأحمد قريع ألم يئن الأوان لكي تتنحوا عن ملف المفاوضات بعد عشرين عاماً من الفشل المطلق!؟

صائب عريقات يطلق على نفسه كبير المفاوضين الفلسطينيين، وله كتاب "الحياة مفاوضات" حيث يظن أنه أبو التفاوض والمفاوضات والدبلوماسية، لكن ما الذي حققته تجربتك الطويلة يا عريقات؟ منذ أيام مؤتمر مدريد ما هي الأمور المفيدة التي حققتها للشعب الفلسطيني؟

عريقات يجيد افتعال المعارك الوهمية على قضايا لا تسمن ولا تغني من جوع، ففي أيام مؤتمر مدريد رفض الصهاينة دخول عريقات قاعة الاجتماعات وهو يضع دبوس العلم الفلسطيني على بدلته، وبدأت بعدها مفاوضات طويلة على باب القاعة سماها عريقات بـ "مفاوضات الكريدور"، ودار نقاش هل يدخل عريقات مع علم فلسطين أم لا يدخل، وفي النهاية توصلوا إلى أن يدخل عريقات ويخلع السترة بدلاً من خلع العلم وهكذا لا يضايق الصهاينة برؤية علم فلسطين ولا يتنازل هو ويخلع علم فلسطين. هذه حلول صائب عريقات الإبداعية!

البداية كانت مع أوسلو:

أما الأمور الجوهرية والمهمة فلم يحقق شيئاً لا هو ولا أحمد قريع ولا حسن عصفور ولا أي أحد من الذين احتكروا التفاوض باسم الشعب الفلسطيني طوال عشرين عاماً؛ فعلى سبيل المثال في رسائل الاعتراف المتبادل باتفاقية أوسلو وجه ياسر عرفات باسم منظمة التحرير رسالة جاء فيها: "تعترف منظمة التحرير بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن جديد"، و"إن المنظمة تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط وبالحل السلمي للصراع بين الجانبين"، و"تعتبر المنظمة أن التوقيع على إعلان المبادئ ... يفتتح حقبة جديدة من التعايش السلمي والاستقرار.. حقبة خالية من العنف. وطبقاً لذلك فإن المنظمة تدين استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى".

وبالمقابل ما الذي حصلته المنظمة؟ هذه رسالة الاعتراف التي أرسلها اسحق رابين (كاملة): "رداً على خطابكم المؤرخ في 9 سبتمبر (أيلول) 1993، فإنني أحب أن أؤكد لكم، في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية المتضمنة في خطابكم، فإن حكومة إسرائيل قررت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وستبدأ مفاوضات مع منظمة التحرير في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط." لا يوجد اعتراف بدولة فلسطينية ولا اعتراف بمعاناة الشعب الفلسطيني، فقط اعتراف بتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني بشرط التزامها بما جاء في خطاب عرفات، في حين أن اعتراف عرفات بالكيان الصهيوني لم يكن مشروطاً.

وكما يقولون "المكتوب يقرأ من عنوانه"، وعصابة المقاطعة بدأوا عهدهم التفاوضي بالتفريط وتضييع حقوق الشعب الفلسطيني، وما رأيناه في وثائق الجزيرة ليس إلا استمراراً لتنازلات ولتفريط امتد عشرين عاماً، لكن اللافت في الأمر هو تدني سقف مطالب العصابة إلى درجة التماهي مع المطالب الصهيونية، وأحياناً لا تميز في الوثائق بين المتكلم هل هو من الطرف الصهيوني أم الفلسطيني.

عريقات وعصابة التفاوض أقنعوا حركة فتح بأنه يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن فلسطين ضاع أغلبها ويجب تدارك الأمر وإنقاذ ما تبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان أهم وعودهم هو وقف الاستيطان في الضفة والقطاع وكان هذا الكلام عام 1993م، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تضاعف عدد المستوطنين أربع مرات في الضفة الغربية وتضاعف حجم الاستيطان وعدد المستوطنات، ففشلوا بالوفاء بما وعدوا به (على ضعفه وهزاله أصلاً).

الإنجاز الوحيد الذي تحقق على مستوى الاستيطان هو تفكيك مستوطنات قطاع غزة عام 2005م، لكن هذا كان نتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية، وفي رأي البعض كانت مؤامرة من شارون من أجل فصل الضفة عن القطاع، وفي كلتا الحالتين لم يكن للمفاوض الفلسطيني أي فضل.

تنازلات جديدة:

لم يفشل عريقات بإنقاذ ما يمكن إنقاذه فحسب، بل نجده يتبرع للصهاينة بطريقة سخية، فوافق على التنازل عن أجزاء من الحي الأرمني بالبلدة القديمة ألم يكن بإمكانه القول بأن الأرمن فلسطينيون ولا يريدون العيش تحت الحكم الصهيوني؟ وتنازل عن ما يسمى بالحي اليهودي، ألم يعلم صائب عريقات أن الحي اليهودي لم يكن في يوم من الأيام يهودياً وأنه عبارة عن حيين إسلاميين (حارة الشرف وحارة المغاربة)، وأن الصهاينة قاموا بطرد سكانهما بعد حرب عام 1967م وهدموا منازلهم وأقاموا الحي اليهودي على أنقاضه؟ صائب عريقات تخلى عن لاجئي عام 1948م ويقول أنه يتمسك بأراضي عام 1967م فما به يفرط بحقوق أهل حارتي المغاربة والشرف وهم من لاجئي حرب عام 1967م؟

قيل الكثير بخصوص عدم عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها، وتذرع المفاوض الفلسطيني بعدم واقعية هذا المطلب وإن كان منطقهم هذا غير مقبول لدى أكثرية الشعب الفلسطيني، إلا أنهم يفاجئونا بأنهم لم يكتفوا بإسقاط حق العودة بل قرروا أن اللاجئين لن يعودوا إلى الدولة الفلسطينية الموعودة في الضفة والقطاع، ويطمئن صائب عريقات الصهاينة بأن العودة إلى هذه الدولة لن تكون للجميع وأنها ستكون مرهونة بإمكانية استيعابهم بها. طيب ما دخل الصهاينة بمن يأتي إلى هذه الدولة؟ لو أردنا استقدام جميع اللاجئين الفلسطينيين وأعداد أخرى من العرب والمسلمين ومن كوريا ومن الهند والسند وأعطيناهم جنسية فلسطينية وأسكناهم بهذه الدولة، فما دخل الصهاينة بمن يأتي ومن لا يأتي؟

بأي حق يا صائب عريقات تسمح للصهاينة بالتدخل في من يعود إلى هذه الدولة الموعودة ومن لا يعود؟ هل هذه هي الدولة "المستقلة" التي تعدوننا بها؟ تنازلتم وقبلتم بدولة منزوعة السلاح حتى "يطمئن الصهاينة" والآن تسمحوا لهم بتحديد من يسكن في الضفة والقطاع ومن لا يسكن؟ وماذا بعد؟ هل سيضعون قيوداً على عدد الأطفال المسموح لكل أسرة فلسطينية أنجابهم؟

ما معنى أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني فيما يتخلى عريقات وعبد ربه وأحمد قريع وسلام فياض عن الشعب الفلسطيني في الشتات وداخل الخط الأخضر وتشطب فلسطينيتهم؟ لماذا هذا الإصرار على تمثيل ملايين الفلسطينيين إذا كنتم تضمرون التخلي عن كل حقوقهم؟ هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً أنكم تريدون التجارة بمعاناتهم (وبأقبح معاني التجارة).

ويأتي عريقات بعدها وبكل وقاحة يقول "أنا لم أقل أني سأستثني اللاجئين في الشتات من الاستفتاء على حق العودة، بل نستثنيهم من الاستفتاء على الحل النهائي"! أليس حق العودة جزء من الحل النهائي! لو بقيت على اتهام الجزيرة لكان أشرف لك.

هذا فضلاً عن رفض الصهاينة و"الراعي الأمريكي" مناقشة قضية تعويض اللاجئين بأي شكل من الأشكال، وقبول ياسر عبد ربه بيهودية الكيان الصهيوني وقوله "لا نمانع بتسمية الكيان الصهيوني بالوطن القومي لليهود، لكن لا نريد قول ذلك على الملأ"، يهودية "إسرائيل" هي فكرة عنصرية مثلها مثل فكرة نقاء العرق الأبيض في جنوب أفريقيا ونقاء العرق الآري في ألمانيا النازية، وعبد ربه يعتبرها شيء عادي وطبيعي!

ولا ننسى التحريض على احتلال المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر والتي يسميها الصهاينة (محور فيلادلفيا)، أو المكالمة بين نصر يوسف وموفاز حيث كان يتآمرا لاغتيال الشهيد من كتائب الأقصى حسن المدهون (أو اعتقاله كما يزعم نصر يوسف، وكأن التآمر مع المحتل لاعتقال المقاومين ليس جريمة).

كما أظهر التدخل الصهيوني في اختيار مسؤولي الأجهزة الأمنية مدى "استقلالية القرار الفلسطيني" الذي يتبجح به عريقات وعبد ربه، فماذا بقي لتتفاوضوا عليه؟ إذا كان الصهاينة يملون عليكم من يكون مسؤولاً ومن لا يكون مسؤولاً، هل حقاً تملكون قراركم؟

جرباناكم عشرون عاماً فلم تحققوا شيء، سمعنا تصريحاتكم العلنية والآن نقرأ وثائقكم وحواراتكم في الغرف المغلقة فتأكدنا أنكم لم تحققوا للشعب الفلسطيني شيئاً سوى التنازلات المتراكمة دون أي انجاز حقيقي!

ما البديل؟

ونتساءل بأي حق يتحكم أربع أو خمس أشخاص، جاءوا إلى مناصبهم من خلال التعيين، ولم ينتخبهم أحد ليفاوض عن الشعب الفلسطيني (فياض وعريقات انتخبا كنواب عن أهل الضفة والقطاع وليس كمفاوضين عن كامل الشعب الفلسطيني)، وحتى حركة فتح ومنظمة التحرير لا يوجد لهم سلطة حقيقية على عملية التفاوض، وعبد ربه يصدر بيانات باسم اللجنة التنفيذية للمنظمة دون الرجوع إلى اللجنة (وجميع أعضاءها معينين بالمناسبة).

أيعقل أنه لا يوجد في حركة فتح سوى هؤلاء الأشخاص، ومع اعتراضي على التفاوض من حيث المبدأ، إلا أنه لا يمنع أن أتساءل لماذا يحتكر بضع أشخاص القرار الفلسطيني ولمدة عشرين عاماً متتالية؟ هنالك شخصيات داخل حركة فتح لو أرسلت إلى المفاوضات لكان أداءها أقل سوءاً مثل النائب حاتم عبد القادر، وهو لن يعيد حقوق الشعب الفلسطيني لكني متأكد أنه لن يظهر هذا القدر من التهافت لإرضاء الصهاينة.

أهل تونس أزاحوا بن علي وانتفضوا عليه لأنه احتكر القرار وتربع على كرسيه وتكلم باسم الشعب وبطش باسم الشعب وخنق الشعب باسم الشعب لأكثر من ثلاث وعشرون عاماً. آن الأوان أن تفهموا أن البقاء لله وحده. وآن الأوان لكل فصائل العمل الفلسطيني بما فيها حركة فتح أن تسحب التفويض من هذه الزمرة وأن يقال بكل صراحة ووضوح أنها لا تمثل الشعب الفلسطيني بأي حال من الأحوال. يعطيهم العافية "خبصوا" بما فيه الكفاية.

الأربعاء، 19 يناير 2011

نقاش عقلاني حول الاعتقال السياسي في الضفة الغربية

تقلبت مبررات سلطة رام الله والناطقين باسمها بخصوص الاعتقال السياسي في الضفة الغربية على مدار السنوات، فبُعيد اتفاقية أوسلو كان المبرر هو احترام اتفاقية أوسلو وحماية أبناء حماس من الاحتلال الصهيوني، لأنه حسب الاتفاقية إذا لم تسجن السلطة الشخص المطلوب للاحتلال فيحق للاحتلال اعتقاله.

إلا أن الخطاب تغير بعد أحداث عام 2007م (أو ما يعرف بالحسم) وأصبح الكلام عن محاربة الإنقلابيين وحق السلطة بحماية نفسها من حركة حماس وعن الاعتقال على خلفية "مخالفات جنائية"، وبعد اضراب المعتقلين الستة عن الطعام واطلاق سراحهم ثم إعادة اعتقالهم على يد الصهاينة عادت السلطة لتتكلم عن الاعتقال من أجل الحماية من الصهاينة.

والسؤال المطروح هنا كيف اصبح الصهاينة خطراً يهدد المعتقلين؟ هل كانوا مطاردين وضاقت عليهم الأرض فاستضافتهم السلطة؟ أم أنها اعتقلتهم من بيوتهم وبعد التحقيق معهم ظهرت معلومات جعلتهم "مطلوبين" للاحتلال الصهيوني؟ وائل البيطار مثلاً متهم بالمشاركة في عملية ديمونا الاستشهادية، والسؤال لماذا تعتقل السلطة شخصاً بسبب دوره في عملية استشهادية؟

أسباب الاعتقال السياسي عند السلطة متنوعة، ومنها ما يتم بناء على طلب المخابرات الصهيونية لاعتقال أشخاص معينين (وهذا كان منتشراً بشكل أكبر قبل انتفاضة الأقصى)، ومنها ما يتم بناء على تحريات وتحقيقات وبمبادرة ذاتية من أجهزة السلطة الأمنية، والتحقيق والاعتقال في سجون السلطة يدوران حول خمسة محاور رئيسية:

‌أ. البحث عن سلاح المقاومة: ولا يقتصر البحث على سلاح القسام بل يشمل سلاح الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية (مثلاً القيادي في كتائب أبو علي مصطفى أحمد المشعطي معتقل منذ عدة شهور في سجن الجنيد)، كما يشمل ما لدى تجار السلاح خوفاً من انتقالها إلى المقاومة. وتطلق السلطة مسمى ملطف على نشاطها في هذا المجال وهو "محاربة الحيازة غير القانونية للسلاح".
والمعتقلين الذي تعتقلهم السلطة تحت هذا البند يصبحون هدفاً تلقائياً للاحتلال الصهيوني الذي يعتقلهم فور خروجهم من سجون السلطة.

ب. البحث عن مصادر تمويل حركة حماس: فالسلطة لديها قناعة أن قوة حماس تأتي من قوة مؤساستها المالية، وبدءًا من عام 2005م بدأ الاحتلال الصهيوني حملة شاملة ومتواصلة ضد المؤسسات المالية والخيرية التابعة لحماس، وبعد عام 2007م تولت السلطة هذا الدور حيث تعمل سلطة النقد بالتعاون مع البنوك من أجل تتبع مصادر وطرق التمويل المختلفة، في حين تتولى الأجهزة الأمنية دور تتبع الأفراد "المشتبه بهم".
تطلق السلطة على نشاطها في هذا المجال مسمى ملطفاً آخر وهو "محاربة غسيل الأموال"، بالرغم من أن أغلب المستهدفين لا يمكن إدانتهم بأي قانون أو شكل من الأشكال.

‌ج. الجهاز الاعلامي التابع لحماس: وهنا تلاحق المراسلين والأفراد المشتبه بتواصلهم مع الأجهزة الإعلامية التابعة لحركة حماس، وهذه الملاحقة كانت خجولة ومحدودة قبل عام 2007م إلا أنها أصبحت علنية بعد ذلك، لكنها تأتي في الدرجة الثالثة في سلم أولويات السلطة.

‌د. الاعتقال على خلفية الخلاف بين فتح وحماس: وهي اعتقالات انتقامية وبناءً على تقارير كيدية، وهي بمجملها اعتقالات موسمية (مثل اقتراب انطلاقة حماس)، وهي أسهل ملفات الاعتقال السياسي، ويمكن حلها فور التوقيع على أي مصالحة مرتقبة، على عكس القضايا الثلاث الأولى وخاصة ما يتعلق بسلاح المقاومة.
ومن يعتقل على خلفية الانقسام لا يكون اعتقاله عادةً لفترات طويلة، ولا يعتقله الصهاينة (في أغلب الأحيان) بعد خروجه من سجون السلطة، كما تلجأ السلطة إلى التعامل مع نشطاء حماس بسياسة الاستدعاءات بشكل واسع ضمن سياسة استنزافهم نفسياً وبدنياً. وحاولت السلطة طويلاً تصوير الاعتقالات السياسية على أنها تأتي فقط ضمن هذا الإطار، لتقول للعالم المشكلة ستحل مع توقيع المصالحة.

‌هـ. اعتقال الأسرى المحررين من سجون الاحتلال: ويدور التحقيق معهم حول نشاطهم داخل السجن وحول الأسرى الناشطين في قيادة حماس داخل سجون الاحتلال ومصادر تمويلهم، وحسب ما وصل من سجون الاحتلال فإن هذه المعلومات تمرر إلى سلطات الاحتلال والكثير من الأسرى يعيدهم الصهاينة إلى أقبية التحقيق بناء على هذه المعلومات أو يتم قمعهم وعزلهم بناءً عليها.
كما قد يتطرق التحقيق معهم حول الأمور التي لم يعترفوا بها عند المحققين الصهاينة، وهذا يعاني منه المعتقلون الإداريون أكثر شيء (الذين يسجنهم الاحتلال بدون تهم محددة).
ومن أمثلة التنسيق الأمني الواضحة بين المحتل الصهيوني والسلطة الفلسطينية هي جمعية فرح فرح الخيرية ومقرها رام الله، أصدرت سلطات الاحتلال قراراً بإغلاق الجمعية عام 2006م بتهمة علاقتها بحركة حماس، واعتقلت عدداً من أعضاء هيئتها الإدارية والعاملين فيها ومنهم الشيخ تيسير العاروري وزياد مشعل، وبعد الافراج عنهم قامت السلطة بحملة اعتقالات طالت أعضاء الهيئة الإدارية والموظفين فيها. وهم جميعاً محتجزون حتى اليوم بمبرر "تبييض الأموال لصالح حركة حماس".

نريد هنا مناقشة أول سببين للاعتقال: سلاح المقاومة وتمويل حماس، كونها قضايا ترتبط بعلاقة السلطة بالمحتل الصهيوني، ولما فيها من إساءة إلى السلطة نفسها ولحركة فتح، ولكونها العقبة أمام أي مصالحة فلسطينية، فالسلطة يمكن أن تتوقف عن اعتقال اعلاميي حركة حماس وستتوقف عن الاعتقالات الانتقامية والكيدية بعد أي مصالحة، لكن هل تستطيع وقف اعتقال النشطاء العسكريين دون الاخلال بالتزاماتها تجاه الاحتلال الصهيوني؟
السلطة تقول أنها تعتقلهم من أجل توفير الحماية لهم؟ وأن دخول السجن لدى السلطة سيكون أفضل للمعتقلين من دخول سجون الاحتلال، وكثيراً ما طرح مؤيدو فتح التساؤل التالي "أليس من الأفضل سجنهم في سجون السلطة عند أبناء شعبهم بدلاً من سجنهم عند أعدائهم الصهاينة"؟

لكن هل تستطيع السلطة ضمان الحماية لهم؟ وهل حقاً دخول سجون السلطة أفضل لهم من سجون الاحتلال؟ لو قدر لأحدكم مقابلة أحد المعتقلين السياسيين في سجون السلطة وسألتموه عما إذا كان يفضل الإفراج عنه ولو كان ذلك يعني احتمال اعتقاله من قبل المحتل الصهيوني أو البقاء مسجوناً لدى السلطة، لكان جوابه حاسماً بأنه لا يقبل بأقل من الافراج الفوري عنه.

ولماذا هذا الاصرار على الافراج عنهم بالرغم من خطر الاعتقال لدى الاحتلال:

1-لأن سجن السلطة ليس ضمانة لهم من الاعتقال على يد المحتل: هنالك تجربة خلية صوريف التي اختطف الاحتلال أفرادها أثناء قيام السلطة بنقلهم من سجن إلى آخر عام 1997م، وتجربة سجن بيتونيا عام 2002م حيث كان يسجن فيه عشرات المقاومين من كافة الفصائل بينهم قياديون بارزون في كتائب القسام وعلى رأسهم بلال البرغوثي وسليم حجة عندما حاصر جيش الاحتلال وقصفوه حتى أجبروا السلطة على تسليمها المقاومين.
وسجن أريحا حيث كان يقبع فيه أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي ومقاومين من الجبهة الشعبية، حيث هاجمه جيش الاحتلال عام 2006م بنفس الطريقة واختطفوهم.

2-ما دام أن خروج المعتقل السياسي من سجون السلطة يعني أنه سيصبح مطلوباً للمحتل مهما قضى في مدة اعتقال، فهل الحل أن يبقى للأبد في سجن السلطة بحيث يخسر حياته وتتعطل أعماله وتعليمه؟ ما دام هنا سجن وهناك سجن لماذا تقبل السلطة على نفسها القيام بدور السجان؟

3- الظروف المعيشية في سجون السلطة ليست بأفضل من سجون الاحتلال عموماً، هنالك أمور معيشية هنا أفضل وأمور معيشية أخرى هناك أفضل، لكنها ليست فروقاً مهمة.

4- الاعتقال السياسي يورث كراهية وأحقاد متبادلة، مما يهدد الترابط الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، ويهدد بحرف مسار المقاومة، والسؤال لماذا تقبل السلطة بالمخاطر الناجمة عن استمرار الاعتقالات السياسية؟ أليس من الأجدى أن تترك هذه الممارسات؟ لماذا تطلب السلطة من حماس أن تتحمل هذه الاعتقالات وتبعاتها باسم الوحدة الوطنية؟

ونتساءل في النهاية إذا كانت السلطة عاجزة عن حماية المواطن الفلسطيني أو حقوقه الوطنية، أيحق لها المطالبة بأن تكون الجهة الوحيدة المخولة بامتلاك السلاح؟ وكيف تطلب من حماس كشف حساباتها المالية علناً وهي لا تستطيع حمايتها من المحتل الصهيوني؟ هنا السلطة تضع نفسها في موقف الاتهام، وتعزز من مزاعم تنفيذها لأجندات صهيونية بحتة.


ملاحظات سريعة على هامش انتفاضة الشعب التونسي

1- العمل الجماهيري قادر على إحداث الفرق: لطالما استهان الكثيرون بالمظاهرات والمسيرات والاعتصامات ووصفوها بالعبث والإبر التخديرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، حسناً لقد أثبتت انتفاضة الشعب التونسي أنهم كانوا على خطأ.

يجب أن نؤمن بأنه "ما ضاع حق وراءه مطالب"، والإصرار يأتي بنتيجة مهمة كانت الإمكانيات ضئيلة، هذا ما تعلمنا إياه التجربة التونسية، فالنظام التونسي أنشأ جهازاً أمنياً شيطانياً خنق الناس وعد عليهم أنفاسهم، لكن كل ذلك تهاوى أمام الإصرار، لا التفاوت في المقدرات والامكانات ولا جو الرعب والتخويف استطاع أن يفيد بن علي وزمرته.

أول أمس رأيت دعوة لحزب التحرير في تونس إلى خروج مسيرات لأنصاره، ولا أدري مدى قوة حزب التحرير في تونس لكن هذه الدعوة مؤشر على تغير تفكير الحزب، فلطالما استحقر المسيرات والمظاهرات ولطالما اعتقد بأن التغيير لا يأتي إلا من القمة (أي من الحكم) وليس من القاعدة. في الضفة الغربية نرى بوادر تغير ولو خجولة في نظرته هذه ويحاول التصدي للسلطة من خلال أعمال جماهيرية، وها هو في تونس يخطو خطوة أخرى لينتهي إلى حيث بدأ غيره.

2- الموقف الغربي المنافق: زين العابدين بن علي، هو الطفل المدلل لأمريكا ولفرنسا والنظام العلماني التونسي كان مفخرة الغرب وأنموذجاً لأمركة الإسلام ومسخ قيمه، وقُدِم الدعم غير المحدود لبن علي من تمويل واستثمارات وخبرات أمنية وتسليح لكي يمضي قدماً بمشروع التغريب في تونس، تحت مسمى تنمية وتطوير الشعب التونسي.

اكتشفنا جميعنا في عام 2011م أن تنمية العلمانية التونسية لم تكن إلا أكذوبة تتستر على نظام قمعي بوليسي إجرامي، لكن الغرب أبى إلا نفاقاً وتلوناً، وبدلاً من أن يعترف بخطأه وفشل مشروعه العلماني، رأينا النفاق في أقبح صوره.

حرص الغرب طوال الوقت على الإمساك بالعصا من المنتصف، وفي بدايات انتفاضة الشعب التونسي كان التجاهل شبه التام، وعندما بدأت الأمور بالتصاعد بدأت التصريحات الديبلوماسية المتوازنة التي "تعبر عن القلق" لكنها لا ترقى إلى إدانة بن علي، وعندما توضح أن كل شيء انتهى ووقع الانهيار، لم يعد يلزمهم الرجل، وحتى صديقه الحميم ساركوزي رفض استقباله أو حتى أفراد عائلته، لأنه لا يريد أن يغضب الشعب التونسي.

أوباما امتدح شجاعة الشعب التونسي، وفرنسا بدأت بإلقاء دروس الديموقراطية على تونس، متى؟ بعد سقوط الطاغية، حسناً هذه أمور يعرفها الشعب التونسي الذي انتزع حقه بيده وانتزع حريته بيده، وهو ليس بحاجة لمدح ودروس أهل النفاق والتلون.

3- سلاح الانترنت: أثبت الانترنت أنه سلاح فعال وقوي، وبالرغم من أن النظام حرص على إغلاق كل موقع يأتي منه "ريح" التغيير، وحتى مواقع البروكسي كان يحرص على حجبها حتى لا يلتف الشباب التونسي على حجب المواقع، وبالرغم من كل ذلك تمكن الشعب التونسي من اختراق الحواجز وكأنها لم تكن، وربما لهذا السبب كان أول وعد نفذه بن علي هو رفع الرقابة عن الاعلام وفك الحجب عن المواقع، فقد أدرك أن كل القيود كانت عبثاً ولا فائدة منها.

الانترنت لم يكن وسيلة تواصل اعلامي مع العالم الخارجي فحسب، بل كان وسيلة للتعبئة والتوجيه والحشد والتنسيق والتواصل بين النشطاء، نحن نعيش اليوم عصر ثورة المعلومات، ومن يتكيف مع هذا العصر يكتب له البقاء، وأنظمة مستبدة تقتل الابداع والتميز بكل تأكيد لن تستطيع الاستفادة من وسائل العصر، لأن شراء الأجهزة الأكثر تطوراً لا يكفي، يجب أن يمتلكوا عقولاً تشغلها، والأنظمة المستبدة تفتقر لها.

عصر ثورة المعلومات هو عصر انتصار أصحاب الهمم العالية وأصحاب الإرادة والتصميم، وهزيمة المستبدين قاتلي الابداع ومروجي الخوف والترويع.

4- تونس إلى أين: لطالما روج بن علي للغرب أن البديل عنه هو الإسلاميين والتطرف والظلامية، في حين روج لشعبه (مثله مثل أغلب المستبدين الطغاة) أن البديل عنه هو الفوضى والدمار والتفتت، فلا أحزاب حرة ولا حياة سياسية حقيقية، فإن غاب الصنم (كما وصفه راشد الغنوشي) أنهارت البلد وحل الدمار والخراب.

أثبتت الأيام الأخيرة أن الدمار والخراب في تونس جاء من ناحية السلطة، فما كانت تخربه ببطء طوال السنوات الماضية قررت أن تسرع وتيرته خلال أيام معدودة، حتى يتحسر الناس على ذهاب النظام، لكن شعباً كان يموت كل يوم مئة مرة في عهد بن علي يرى في الثمن الذي دفعه في انتفاضته المجيدة ثمناً بخساً مقابل ما كان سيخسره لو بقي بن علي لحد مماته وخلفه بن علي رقم 2.

البلاد تمر الآن خلال مرحلة انتقالية، وأصحاب بن علي لا يملكون إلا التنازل فقد خسروا المعركة وخسروا الحرب، وكلما أقدموا على خطوة شك الناس بصوابها، اضطروا للتنازل مرة أخرى، وهم لن يتوقفوا عن التنازل ما دام هنالك ضغط عليهم وما دامت الشروط تفرض عليهم، فشعورهم بالهزيمة تام ومطلق، ولا خيار أمامهم سوى التنازل إلا أن لقوا تساهلاً من الطرف الآخر (أي الشعب).

ما هي خطوات الحل المطلوبة؟ الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين، عودة المنفيين، حرية تشكيل الأحزاب والجماعات السياسية، تشكيل نظام تعددي سياسي حقيقي، والتخلص من النظام الذي تتركز فيه السلطات بيد رجل واحد، يجب توزيع السلطات بين أكثر من جهة، فآخر ما نريده هو استبدال مستبد بمستبد آخر.

5- ضربة قاصمة للعلمانية: كان الباحثون يرددون بأنه لا توجد دول علمانية حقيقية في العالم الإسلامي سوى دولتين: تونس وتركيا. تركيا تمر بثورة هادئة منذ عام 2003م تفرغ مضمونها العلماني وبقيت اليوم القشور العلمانية تغلفها لكن المستقبل القريب سيشهد سقوطها في تركيا، فحتى حزب الشعب الجمهوري حارس العلمانية التركية بدأت تتعالى أصوات داخله تطالب بتغيير الموقف من الدين والتخلي عن العلمانية المتطرفة.

بن علي هرب قبل يومين من تونس إلا أن السقوط المدوي له ولنظام العلمانية التونسية هو ضربة قاصمة للعلمانية في العالم الإسلامي، فمن الواضح أن اختفاء مظاهر العلمانية المتطرفة من تونس هي مسألة وقت لا أكثر، إلا أن الأثر الأقوى لسقوط بن علي هو على صورة النموذج والقدوة الذي كان يمثله للعلمانيين على امتداد العالم الإسلامي، لن يجرؤ أي منهم بعد اليوم على الاستدلال بالتجربة "الحضارية" للعلمانية التونسية.


الأربعاء، 12 يناير 2011

هل يكون الخطاب الأخير للرئيس بن علي؟

خرج الأمس علينا الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في خطاب متلفز ليدافع عن نظامه وليقدم وعوداً بعشرات الاف الوظائف للعاطلين عن العمل خلال العامين القادميين وإعفاءات ضريبية ومزيداً من الحريات الإعلامية، وهو ثاني خطاب له منذ بدء الاحداث قبل حوالي الشهر.

وفي مؤشر على تدهور الوضع الداخلي قررت وزارة التربية والتعليم التونسية اغلاق المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمى، وهو إجراء ذكرني بقرار الاحتلال الصهيوني في بداية الانتفاضة الأولى والذي أغلق الجامعات الفلسطينية لحوالي أربع سنوات متتالية والمدارس الفلسطينية لفترات متقطعة طوال سنوات الانتفاضة، وفي كلتا الحالتين كان الهدف تطويق الانتفاضة الشعبية، وفي حين فشل الصهاينة بكبح الانتفاضة وكان قرارهم (مثل غيرها من القرارات عديم الجدوى)، يتوقع أن يكون قرار النظام التونسي محاولة اللحظة الأخيرة لكبح انتفاضة الشعب التونسي.

نعم، هذا صحيح، فما تشهده تونس هو عبارة عن انتفاضة شعبية ضد نظام بن علي البوليسي، وما نراه من مطالب وشعارات اجتماعية واقتصادية فما هي إلا القشرة التي تغلف الأسباب الجوهرية والحقيقية للانتفاضة الشعبية التونسية، وما نراه من رفع لأعلام فلسطينية خلال المظاهرات يعبر عن شعور الجماهير التونسية بالمظلومية وأن هنالك رغبة بالخلاص السياسي، وأن ما يجري ليس فقط احتجاجاً على قلة الوظائف وغلاء الأسعار.

في الجزائر المجاورة اندلعت مواجهات بسبب رفع أسعار المواد الغذائية بعد اندلاع الأحداث في تونس، وانحسرت تقريباً بعد القرار الحكومي بإلغاء القرارات التي تسببت برفع الأسعار، لكن في تونس المواجهات تتسع وتتمدد لأن المشكلة في أصلها ليست اقتصادية وليست اجتماعية.

وإذا رجعنا لبداية الأحداث في تونس لوجدنا الشرارة حدثاً لم يكن ليخطر على بال أحد أنه سيكون أمراً مهماً، حدث يحصل في كل البلدان شاب عاطل عن العمل أحرق نفسه احتجاجاً على مصادرة الشرطة "بسطته" المتواضعة، وفي بلد طبيعي ما كان لهذا الأمر أن يكون ذا بال، وخاصة في مجتمع عربي محافظ يعتبر الانتحار جريمة وخزي وعار بحق مرتكبها، لكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، والقطرة التي طفح الكيل بسببها.

وطوال سنوات حكم بن علي ومن قبله بورقيبة قمعت الحريات وقيم المجتمع الدينية، باسم التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية في حين لم ير الشعب إلا القليل، وفي مجتمع يعتبر الحديث في السياسة أسهل طريق لدخول غياهب السجون ومقرات أجهزة الدولة المخابراتية، فكان متوقعاً أن تكون الشعارات والمطالب الاقتصادية والاجتماعية المتصدرة للمظاهرات والمسيرات.
فالناس تريد أن تسأل النظام أين هي التنمية الموعودة (والكل يعرف الإجابة: هي في جيوب المافيا الحاكمة)؟ وفي البداية ركز أكثر التونسيين على الجانب المطلبي والاقتصادي حتى يتجنبوا "جرم" الحديث في السياسة (هكذا عودهم النظام كونوا بعيدين عن السياسة تكونوا في أمان)، لكن تحت كل ذلك هنالك المطالب الحقيقية: محاسبة النهابين الذين نهبوا الشعب التونسي وأذلوه طوال العقود الماضية، وهي فرصة رآها المجتمع التونسي للانتفاض وتغيير أوضاعه، ومثل كل الثورات الكبرى تبدأ بشرارة صغيرة ونأمل أن تستمر حتى يزاح بن علي ونظامه العفن.

وكأنه لا يدري الأسباب الحقيقية للانتفاضة الشعبية (والتي وصفها بأعمال الشغب والتخريب) تساءل بن علي عن سبب ردة الفعل الشعبية العنيفة على قضايا البطالة والضائقة والاقتصادية حيث أشار إلى أن تونس ليست أسوأ دول العالم من ناحية البطالة والفقر، وهذا صحيح لكن الأصل أن يسأل نفسه لماذا كل هذا العنف والغضب، أليس من الممكن أن يكون هو السبب؟ لماذا تكلم عن كافة الأسباب والاجراءات ولم يتكلم عن فشله بإدارة الدولة طوال السنوات الثلاث والعشرين الماضية؟
الرئيس التونسي يلعب في الوقت الضائع، ويحاول تسويق إجراءات اقتصادية من أجل اسكات الناس، ولا أدري حقاً كيف سيفي بوعوده هذه، كيف سيوفر عشرات الاف الوظائف للعاطلين عن العمل؟ ما هي خطته التنموية لتشغيلهم؟ هل استطاع عمل الدراسات اللازمة خلال أيام قليلة؟ ومن أين سيأتي بالتمويل لهذه المشاريع؟ وهل ستكون مشاريع انتاجية أم مجرد استيعاب في مشاريع "بطالة مقنعة"؟ ولماذا لم نسمع بها إلا بعد أن انفجر الشعب التونسي؟

هل يظننا بن علي أطفالاً صغاراً لنصدق هذه الوعود الجوفاء؟ كل ما تبقى لنظام بن علي هو منظومة بوليسية قمعية تحاول قدر الإمكان الحفاظ على النظام، ولجوءها للعنف المتزايد هو دليل على صعوبة الموقف وضيق الخيارات أمام النظام، لكن ما لا يدركه بن علي أنه في لحظة ما سينهار كل شيء وسينهار بسرعة مخيفة.

لا أدري إن كان لنظام بن علي خيارات كثيرة وخاصة أنه يواجه المجتمع التونسي بأكمله، ولا يواجه تنظيمات سياسية بعينها، فعندما واجهت الأنظمة القمعية تنظيمات سياسية معينة فإنها عادة كانت تتمكن من قمعها وسحقها بالقوة المفرطة مثلما فعل جمال عبد الناصر وحافظ الأسد مع الإخوان المسلمين، لكن عندما يواجه النظام المجتمع بأكمله ففرصه بالنجاة ضئيلة للغاية، وهنالك النموذج الإيراني عندما فشل الشاه بقمع الشعب واضطر في النهاية للفرار وأنهارت كل منظومته الأمنية، وهنالك النموذج الأندونيسي عندما تدخل الجيش في اللحظات الأخيرة وأجبر الرئيس سوهارتو على التنحي والاستقالة. وكليهما لم يكونا أقل بطشاً وتجبراً من بن علي.

هل يتدخل الجيش التونسي ويجبر بن علي على الاستقالة ويفتح الطريق أمام نظام تعددي حقيقي في تونس وينقذ البلاد من الفوضى المدمرة؟ أم ستنهار المنظومة الأمنية بمجملها وتدخل البلاد في مرحلة الفوضى والتفكك مثلما هو الحال في الصومال؟ أم سينجح النظام في قمع الانتفاضة الشعبية؟ كلما طال أمد التظاهرات كلما تضاءلت فرص النظام في قمعها.



الثلاثاء، 11 يناير 2011

ما حك جلدك مثل ظفرك: الخطوة الأولى على طريق كسر التنسيق الأمني

لم يكن مفاجئاً اعتقال الصهاينة لأعضاء حماس الستة بعد الإفراج عنهم من سجن المخابرات العامة، فقد كان أمراً متوقعاً في ظل التنسيق الأمني المستمر بين الاحتلال الصهيوني والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بل إن البعض يعتقد أن تأخر السلطة بتنفيذ وعدها بالإفراج عن المعتقلين لعدة أيام كان من أجل إعطاء الصهاينة فرصة لترتيب أمر اختطافهم بعد الإفراج عنهم.

لكن كل هذا لا يقلل من أهمية ما أنجزه المعتقلون الستة من خلال اضرابهم عن الطعام، ولا أهمية الحملة التضامنية، فبالرغم من الضعف النسبي للتجاوب الشعبي إلا أن ما حصل أثبت أنه يمكن الضغط على السلطة من خلال وسائل مختلفة، وأن النظام البوليسي الذي تحاول السلطة فرضه بالضفة الغربية ليس بذلك القوة أو البطش الذي يتخيله البعض.

وربما يتساءل البعض: أين هو الانجاز وقد خرج المعتقلون من سجون السلطة ليدخلوا سجون الاحتلال؟ وهذا سؤال وجيه لو كانت القضية هي قضية ستة معتقلين فقط، لكن القضية أكبر من ذلك بكثير فهي تتعلق بمئات المعتقلين السياسيين وبنهج التنسيق الأمني الذي يضيق على المقاومة الفلسطينية ويمنعها من التحرك، فبدلاً من أن يكون المقاوم ملاحقاً من جهة واحدة يصبح ملاحقاً من جهتين اثنتين، أحداهما تلاحقه من الخارج والأخرى تلاحقه في الداخل.

وبالتالي يمكن تلخيص الانجاز الذي حققه المعتقلون بالآتي:

1- اجبار الأجهزة الأمنية رغماً عنها وعن إرادتها على الإفراج عن معتقلين سياسيين: وذلك للمرة الأولى منذ سنوات عديدة (عندما تم اقتحام عدد من سجون الضفة واطلاق سراح المعتقلين السياسيين خلال ذروة انتفاضة الأقصى عامي 2001م و2002م). وبما أنها المرة الأولى التي تحصل في ظل النظام الأمني الذي بناه الجنرال دايتون فهذا يعني أن هذا أمر قابل للتكرار لو وجدت الإرادة اللازمة.

2- كشف زيف مزاعم السلطة حول أسباب اعتقالهم: فالسلطة حاولت دوماً وضع معاناة المعتقلين السياسيين في الضفة ضمن اطار الصراع بين حماس وفتح، وتصويرها على أنها ردة فعل على ما يحصل في غزة، لتأتي تصريحات السلطة بعد كل ما حصل لتقول أن اعتقالهم كان لأجل حمايتهم من الصهاينة، بمعنى أن اعتقالهم من اللحظة الأولى لم يكن له علاقة لا بالانقسام ولا الصراع مع حماس.

3- وضع ملف التنسيق الأمني في المقدمة: ما حصل من تسليم غير مباشر للمعتقلين الستة لم يكن الحادث الأول، لكنه جاء في ظل أضواء اعلامية قوية وفي ظل وساطات عربية، وجاء ليضع ملف التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال الصهيوني على رأس الأجندة الإعلامية والسياسية، بحيث أصبح استمرار السلطة بالتنسيق الأمني عبئاً متراكماً عليها بدلاً من أن يكون رصيداً لصالحها.

4- فتح بوابة الأمل أمام المعتقلين السياسيين وأهل الضفة عموماً: بأن الوضع القائم ليس قدراً لا فكاك منه، وأن معاناتهم ليست مصيرهم الأبدي وأنه يمكن العمل وأنه يمكن التحرك وأنه يمكن الانجاز في ظل أقصى الظروف وأصعبها، فالمعتقلون الستة كانوا في سجن أريحا سيء السمعة ومع ذلك استطاعوا أن يحركوا الضفة والقطاع والاعلام العربي.
ونشير هنا إلى وجود تحركات موازية في الضفة الغربية لكسر حاجز الخوف، منها تحركات لحزب التحرير في المساجد قبل أسبوع والقاء كلمات تهاجم السلطة، ومنها تصدي أهل بلدة سعير لقوات السلطة عندما جاءت لاعتقال أحد أبناء حماس في البلدة. فنحن أمام بدايات يمكن أن تتطور لشيء حقيقي لو كان هنالك تراكم في العمل.

هنالك عوامل مختلفة تضافرت من أجل تحقيق هذا الانجاز الهام أهمها:

1- التوجه إلى المحكمة العليا والمؤسسات الحقوقية: فالسلاح الأقوى الذي حمله المعتقلين الستة كان قرار المحكمة العليا في رام الله بالإفراج الفوري عنهم، مما أبطل الحجج التي كانت تطلقها السلطة لعدم الافراج عنهم بأن اعتقالهم جاء لمخالفات قانونية ارتكبوها.

2- الاضراب عن الطعام: أجبر المعتقلون الستة العالم أجمع على الاستماع لمعاناتهم مع الاعتقال السياسي، عندما بدأوا اضراباً مفتوحاً عن الطعام استمر أكثر من أربعين يوماً، وقد أحسنوا صنعاً عندما رفضوا فك الإضراب إلا بالإفراج عنهم.

3- تحرك أهالي المضربين: من خلال متابعة المؤسسات الحقوقية والاعلامية ومن خلال الاعتصامات أمام مقرات الصليب الأحمر، ومن خلال اجبار وسائل الاعلام على تبني قضيتهم.

4- التحرك الاعلامي: سواء على مواقع الانترنت أو وسائل الاعلام المرئية والمسموعة، وخضوع السلطة في نهاية المطاف لهو أكبر دليل على أن الاعلام يمكن أن يلعب دوراً، وأنه ليس مجرد كلمات تقال لا يسمعها أحد.

5- قرار حركة حماس بوقف جهود المصالحة حتى تحل القضية: مما أدى لتوجه الضغوط تجاه السلطة حتى تتخذ قراراً بالإفراج عنهم، وخاصة أن اعتقالهم غير مبرر نظراً لحصولهم على قرار افراج من المحكمة العليا.

6- الوساطات المختلفة: وبعد أن بلغت الأوضاع ذروتها جاءت وساطة لجنة المتابعة العربية من داخل الخط الأخضر، وضغوط النواب الإسلاميين لتحاول البحث عن حلول لمشكلة المضربين خصوصاً والاعتقال السياسي عموماً، وأخيراً جاءت وساطة أمير قطر الذي قدم السلم إلى السلطة كي تنزل عن الشجرة التي صعدتها.

من المهم جداً أن ندرك أنه لم يكن بإمكان انجاز أي شيء بدون تضافر هذه العوامل جميعها، فقرار المحكمة العليا وحده لم يفعل شيئاً وبقي لأكثر من عشرة شهور غير مطبق، وتحرك الأهل وحده لا يكفي فلو كان تحرك الأهالي وسعيهم واعتصاماتهم تكفي لوحدها لما بقي أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، والاضراب عن الطعام بدون تحرك خارجي وبدون استجابة إعلامية لم يكن ليفعل أي شيء.

وماذا بعد؟

من الضروري أن ندرك أن ما حصل ليس إلا مجرد البداية والخطوة الأولى على طريق كسر الاعتقال السياسي وإنهاء التنسيق الأمني بين السلطة والمحتل الصهيوني، وبدون مراكمة الانجازات فسيضيع هذا الانجاز ولن يكون له كبير الأثر، فيجب أن يلي ما حصل خطوات متتابعة أبرزها:

- مواصلة الضغوط الإعلامية والشعبية على السلطة من أجل اغلاق ملف الاعتقال السياسي وللأبد.

- أن يخرج أبناء المجتمع الفلسطيني من أجل التصدي للسلطة عند محاولتها اعتقال أبناء المقاومة من كافة الفصائل الفلسطينية، فلا يجب أن يمر الاعتقال بسهولة ويسر.

- يجب على الفصائل الفلسطينية المتأذية من الاعتقالات السياسية بالضفة (بالأخص الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وحزب التحرير) أن يتخذوا موقفاً حاسماً من السلطة في هذا المقام، لأن الرأي العام الفلسطيني الآن معبأ إلى آخر درجة ضد الاعتقال السياسي فشبهة الاصطفاف مع حماس التي تخافها هذه الفصائل هي أبعد ما تكون في هذا الموقف.

- يجب أن تطرح حركة حماس قضية التنسيق الأمني والاعتقال السياسي على رأس أولويات محادثات المصالحة واتصالاتها مع الدول العربية، يجب تحويل التنسيق الأمني إلى عبء قاتل على السلطة، فهي لن تتخلى عن التنسيق الأمني ما لم يكن عبئه أكبر من مردوده.
ولعل أهم درس تعلمناه من هذه التجربة هو "أنه ما حك جلدك إلا ظفرك"، فكل الجهود كانت لها نقطة انطلاق واحدة: اضراب المعتقلين عن الطعام، وهذا درس من المهم جداً أن يأخذ به أهلنا في الضفة الغربية فإن لم يتحرك أصحاب الشأن المباشر فلن يتحرك أحد، لكن في لحظة بدئهم بالتحرك سيجدون الكثير من الإخوة الجاهزين لمساعدتهم بكل ما يستطيعونه. فالعالم لا يستمع إلى الصامتين!

السبت، 8 يناير 2011

أحمد بحر، عمر سليمان، والمهاجرون الأفارقة

عاد قبل أسبوع وفد برلماني من كتلة التغيير والإصلاح برئاسة النائب أحمد بحر إلى قطاع غزة، بعد قيامه بجولة في الدول العربية وآخرها كانت دولة الكويت، إلا أن طريق عودته لم تكن ممهدة حيث قام النظام المصري بمنعه من العودة في المرة الأولى وطلبوا منه أن يذهب إلى خالد مشعل في قطر ليقيم عنده! وقيل له أن عمر سليمان غاضب جداً منه، ولم يستطع العودة إلا بعد أن تدخل مشكوراً رئيس مجلس النواب الكويتي وتواسطه لدى النظام المصري.

وسبب غضب الوزير سليمان هو أن النواب خرجوا من غزة لأداء فريضة الحج، وأن النظام المصري اشترط عليهم العودة فوراً إلى القطاع بعد انتهاء الحج، وأن جولتهم العربية جاءت مخالفة لما تم الاتفاق عليه! ولا أعلم بأي حق يقرر عمر سليمان أين يذهب النواب وأين يأتون، لو الكلام عن أمن مصر الداخلي وسيادته (التي نساها المسؤولون المصريون عند الكشف عن خلية التجسس الصهيونية) لقلنا هذا حق مصر، لكن النواب مروا من مصر وما يفعلوه خارج مصر ليس من شأن النظام المصري، إلا إذا كان يعتبر نفسه بواباً على سجن قطاع غزة ومهمته التأكد من "حسن سلوك" المساجين وعدم خرقهم لقوانين السجن وعدم قيامهم بشيء إلا بإذن مدير السجن (البواب مهمته التطبيق فقط).

وقد تكلمت تقارير إعلامية عن أن أسماء زوار غزة العرب والأجانب يرفعها المصريون إلى الصهاينة من أجل الموافقة عليها أو رفض من يريدون، مع ذلك يصر النظام المصري على أنه يقوم بكل ذلك من أجل حماية الأمن القومي المصري أولاً، ومن أجل مصلحة المصالحة الفلسطينية ثانياً، ويفسر المحللون هذه الكلمات بأنه يقوم بهذه الممارسات بسبب علاقة حماس مع الإخوان المسلمين المصريين بالإضافة للضغط على حماس لصالح حركة فتح واجبارها على النزول عند شروط محمود عباس.

وعليه يمكن أن نفهم تصرف عمر سليمان مع الدكتور أحمد بحر في هذا الإطار، لكن هل هذا فقط ما يحكم تصرف النظام المصري تجاه غزة وتجاه القضية الفلسطينية؟ هل عصبية النظام المصري المفرطة تجاه خلية حزب الله التي كانت تهرب السلاح لغزة (كما قيل) والتي قابلها برود تام تجاه خلية التجسس الصهيونية تفسرها فقط هذه الاعتبارات؟

لنأخذ حالة المهاجرين الأفارقة الذين يتدفقون على الكيان الصهيوني مروراً بمصر، فهم ليسوا من حماس وليسوا إخوان مسلمين وقسم كبير منهم ليسوا مسلمين أصلاً، فهؤلاء المهاجرين يدخلون الكيان الصهيوني بطريقة "غير قانونية" من خلال التسلل عبر حدود الكيان مع شبه جزيرة سيناء المصرية، وغالبيتهم يهاجرون لأسباب اقتصادية ومن أجل حياة أفضل يعتقدون أنهم سيجدوها داخل الكيان الصهيوني.

بدأت موجات الهجرة الأفريقية إلى الكيان الصهيوني قبل بضع سنوات وأغلب المهاجرين قدموا من دارفور التي فروا منها خلال الحرب الأهلية، وتبعتهم موجات من جنوب السودان وأريتيريا، بالإضافة لأعداد أقل من دول غرب أفريقيا، ويتراوح عددهم اليوم بين العشرين والثلاثين ألفاً، يمثلون تهديداً ليهودية الكيان الصهيوني وعبئاً سياسياً على حكومة الاحتلال.

ففي بداية موجات الهجرة هذه حرصت حكومة الاحتلال على استغلالها من أجل استخدام اللاجئين اعلامياً كوسيلة ضغط ضد الحكومة السودانية وضد حكومة أرتيريا (الحكومتين المارقتين عن الإرادة الأمريكية)، إلا وأنه بعد تزايد عدد القادمين بدأ الصهاينة يشعروا بحجم الورطة، فقد كان بالإمكان استيعاب بضع مئات والمتاجرة بهم اعلامياً وتصوير الكيان الصهيوني على أنه "واحة الحرية وسط جحيم الشرق الأوسط"، لكن عندما أصبح عددهم بالآلاف أصبحوا مشكلة، علماً بأنه حتى عام 2008م لم يتجاوز عددهم السبعة آلاف فقط.

عمل الصهاينة على إبعاد المهاجرين الأفارقة القادمين من غرب أفريقية، إلا أن الغالبية قدموا من جنوب السودان ودارفور وأرتيريا وإعادتهم يشكل احراج للكيان الصهيوني لأنه حسب ماكنة الدعاية "الصهيو أمريكية" فالسودان وأرتيريا بلدين منتهكين لحقوق الإنسان، والجمعيات الحقوقية الأوروبية والأمريكية لن تقبل بإعادتهم، وهذا لا يعني فقط بقاؤهم وتهديد التوازن الدقيق بين اليهود وغير اليهود في الكيان الصهيوني، بل يشجع قدوم مهاجرين جدد، وهي مخاوف عبرعنها بنيامين نتنياهو أكثر من مرة.

كان الحل هو اللجوء إلى النظام المصري، لأنه متى ما وصل المهاجر الافريقي إلى الكيان الصهيوني فالأمر الوحيد الممكن هو اعتقاله والزج به في معسكر اعتقال ثم الافراج عنه بسبب الاكتظاظ بحيث ينتقل للعيش في ضواحي جنوب تل أبيب أو مدينة إيلات، وفي البداية كان المهاجرون يقبلون بالعيش تحت أي ظروف لكن اليوم أصبحت لهم مطالب وحقوق يسعون لتحصيلها، فالخطر يتراكم بسرعة ويهدد الكيان.

المطلوب من مصر أن تمنع عبور المهاجرين الأفارقة الحدود بأي وسيلة كانت، وكلما تراخت الدولة المصرية في منع مرور المهاجرين الأفارقة هدد قادة الكيان الصهيوني بإقامة سياج فاصل مع الدولة المصرية (ولا أفهم أين وجه التهديد ما دام النظام المصري يعترف بالكيان الصهيوني وحقه بأن يفعل ما يريد على أرضه)، ووصل الأمر برجال الأمن المصريين إلى اطلاق النار على عابري الحدود وقتل العام الماضي وحده 28 مهاجراً أفريقياً وهم يحاولون عبور الحدود من مصر إلى الكيان الصهيوني، مما جعل النظام المصري عرضة لانتقاد مؤسسات حقوق الإنسان.

واليوم حكمت أحد المحاكم المصرية على مهاجرين أفارقة قدمو إلى مصر بسبب نيتهم الهجرة إلى الكيان الصهيوني، ولست أفهم لماذا لا يتولى الجنود الصهاينة أمر اطلاق النار على المهاجرين الأفارقة؟ ولا أدري ما ضرر خروج المهاجرين الأفارقة من مصر على الأمن القومي المصري (لو كان العكس أي قتل متسللين إلى داخل حدود مصر لتفهمنا الأمر)، ولا أدري لماذا يقوم النظام المصري بالمهام القذرة نيابة عن الحكومة الصهيونية.

هل يهودية الكيان الصهيوني من اهتمامات الحكومة المصرية؟ وهل الحرص على عدم احراج الكيان الصهيوني أمام المنظمات الأنسانية يبرر أن تضع الحكومة المصرية نفسها في هذا الموقف؟ ربما يجب علينا أن نعيد فهمنا لمنطلقات المواقف المصرية تجاه القضية الفلسطينية، فمن يحرص على اعلان قتله لمهاجرون أفارقة يتسللون إلى الكيان الصهيوني يريد أن يرسل رسائل إلى جهة ما أنه يقوم بواجب الحراسة على أتم وجه.