الخميس، 5 مايو 2011

الدونكيشوت يقتحم عالم الموضة

عرض لنا الروائي الأسباني ميغيل دي سرفانتس في رواية الدونكيشوت قصة الرجل المهووس بقصص الفروسية والفرسان، والذي أفنى عمره وهو يقرأ الكتب والروايات إلى حد لم يعد يميز بين الحقيقة والخيال، وخاض حروباً وهمية من نتاج عقله المهلوس.

ولأن الدونكيشوت وتجاربه ومغامرات عقله المشوش المهلوس يمثل حالة إنسانية عامة لا تعرف الحدود الزمانية ولا المكانية فحجزت الرواية مكانها بين الخالدين في عالم الأدب، وإن تغيرت المعطيات بين الأمس واليوم فهي في الشكل لا المضمون، والدونكيشوت ما زال يعيش بيننا اليوم لكن بأدوات عصرنا وقشور حياتنا المعاصرة.

وبما أن الكتاب في يومنا هذا تراجعت أهميته ليحتل التلفاز والفضائيات والانترنت مكانه، فإننا نجد الدونكيشوت المعاصر غارقاً في متابعة برامج الفضائيات والابحار عبر الانترنت إلى درجة الاندماج مع عالم الفضائيات والإعلام الجديد، فلا يفرق بين الواقع والمشاهد، فيظن مثلاً أن الثورة التي لا تتابعها وسائل الاعلام لم تحصل، أما تلك التي تسلط عليها الأضواء وتأخذ زمناً أطول من التغطية الإخبارية فحظها من النجاح أكبر.

والدونكيشوت المعاصر يؤمن بأن الحدث الذي لا يشاهده لا وجود له، وإذا لم ير المظاهرات بأم عينيه على الشاشات فهي لم تخرج من الأصل، وإذا لم يتابع الثورة لحظة بلحظة فيؤمن بأنها مجرد خرافة من خرافات الأولين، وإذا تحمس لثورة من الثورات فالويل والثبور لمن لا يعرضها على شاشات فضائياتها أو يفتح أبواب مواقعه أو فيسبوكه لأنه يعطل بذلك تقدم ثورته المفضلة.

موضة اليوم:

في عالمنا المعاصر حيث يعتبر الاعلام المساهم الأول بتشكيل وعي المجتمعات والشعوب أصبحنا نرى رأياً عاماً يتشكل ويتغير بسرعة تغير خطوط الموضة، فنجده مثلاً اليوم صيفياً حاراً نزقاً لا يقبل إلا الانتقام والغضب والشجب والاستنكار لجريمة ارتكبت في مكانٍ ما، وقد تكون جريمة عادية تحصل كل يوم، لكن هذه المرة تلقفها الاعلام وأصبح قضية العصر.
وغداً ينقلب ليكون بارداً غير مبالٍ بما حصل، لأن خطوط الموضة لم تعد تهتم بهذا الحدث، أتعتقدون أني أبالغ؟

حسناً لنضرب مثلاً: أتذكرون ذلك القسيس الذي هدد بحرق القرآن الكريم؟ كم كان مقدار الغضب والاشتعال عندما هدد بحرق القرآن قبل عدة أشهر؟ أتذكرون تدخل البيت الأبيض والبنتاجون لديه كي يتراجع عن فعلته؟ حسناً هل تعلمون أنه أحرق المصحف بالفعل قبل أيام أو أسابيع قليلة ولم تنل الجريمة ربع الاهتمام الذي أخذته جريمة التهديد بحرقه.

لأنه وببساطة اليوم تمر علينا موضة الثورات، وأحياناً تقطعها بعض الصيحات العابرة، مثل صيحة الاهتمام باستشهاد أسامة بن لادن رحمه الله حيث غطى حدث الاستشهاد تماماً على متابعة الثورات لعدة أيام، وبالنسبة للدونكيشوت المعاصر فالحياة إعلام والإعلام موضة، فالحياة إذن موضة، والاهتمامات موضة، وما هو مصيري بالنسبة له اليوم يكون موضة بالية له غداً. وفي عصر السرعة ما أسرع تبدل خطوط الموضة وما أسرع تبدل الأهواء والاهتمامات.

ليش ما سألت عني؟

وبما أن عالم الموضة هو من اختصاص المرأة فنجد اللمسة الأنثوية في عالم دونكيشوت المعاصر، ومثل الزوجة التي تسأل زوجها بعد غيابه يوماً كاملاً عنها في العمل: "ليش ما سألت عني"؟ فالسؤال والاستفسار عن أحوال المرأة هو دليل اهتمامك بها، وإن لم تسأل فأنت لا تهتم حتى لو كانت بطارية جوالك منتهية أم صدمتك سيارة وكنت في غيبوبة.

والدونكيشوت اليوم يسأل قرينه لماذا لم تهتم بثورتي مثلما اهتممت بثورتك؟ لم أجدك تشاهد الجزيرة بما يكفي وقت التقرير الفلاني، ألا تريد أن ينصرك أهلا بلدتي الذين تضامنوا مع أهل ثورتك بمتابعة أحداثها أولاً بأول؟ وكما يقول المثل الشعبي: "الحياة قرضة ودين حتى دموع العين".

ففي عالم الدونكيشوت ليس مهماً ما تقدمه لقضية ما لا معنوياً ولا مادياً، بل المهم كم تشاهد وكم تصرح وكم تقلب من القنوات وكم طاحونة هواء ناطحتها.

إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان:

عندما اقتحم دونكيشوت عالم الموضة بعد نحو خمسمائة عام من ولادته، تغير الكثير في شكله ومظهره وقشوره، واهتماماته وأوهامه وجنونه، لكن المرض واحد: مرض الأوهام التي تصبح حقائق لا تخضع للجدال ولا النقاش، والأسماء التي نخترعها فتصبح أصنام يحظر المساس بقدسيتها، وطواحين الهواء التي تصبح غيلان تهدد حياتنا وإن سكت عنها فأنت متآمر عميل لأهل الظلام.

فمن الذي يقرر أن هذه القضية أهم من غيرها؟ ومن الذي قال أن اهتماماتنا يجب أن تكون واحدة؟ ومن الذي يقول لنا أنسوا هذه القضية واهتموا بغيرها؟

وبينما كان من الممكن لأهل القرن السادس عشر الاستغناء عن قراءة الكتب بشكل أو بآخر، فهل من الممكن لنا الاستغناء عن وسائل الإعلام؟ وهل يمكن أن نحصن أنفسنا من مصير الدونكيشوت؟ وما السبيل إلى ذلك؟

ليست هناك تعليقات: