الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

لماذا لا نستفيد من التجربة التركية؟

تدور في أوساط النخب العربية نقاشات مطولة حول التجربة التركية بين من يقول أنها تصلح للتطبيق في الدول العربية ومن يقول أن هنالك خصوصية للوضع التركي لا تجعلها صالحة لدولنا العربية، والكلام طبعاً هو عن علاقة مشروع أردوغان بالدولة العلمانية، لكن لا أحد يناقش الجانب الأكثر أهمية في المشروع التركي ألا وهو الجانب الاقتصادي.

في كل المقابلات والمناسبات يؤكد أردوغان على أن أهم أسباب نجاح مشروعه هو مكافحة الفساد الاقتصادي كشرط ضروري لتطوير الاقتصاد والرقي بمستوى الناس المعيشي، وأن مكافحة هدر المال العام وفر على الخزينة التركية أموالاً طائلة استخدمت في التنمية، وهو ما رأينا نتائجه تنعكس على الاقتصاد التركي وعلى ازدياد النفوذ السياسي والحضاري التركي في المنطقة وازدياد قوتها وحضورها في مواجهة المشروع الصهيوني.

وبدلاً من الانشغال بدراسة هذا الجانب البسيط والواضح والمهم بنفس الوقت من التجربة التركية، دخلنا في جدل عميق حول علاقة التيار الإسلامي بالدولة والعلمانية والديموقراطية وكيف يمكن التوفيق بين الحريات والمشروع الإسلامي، وكلام طويل عن التسامح واستيعاب وقبول الآخر ودور الدين في الدولة.

أحياناً الحل يكمن في أبسط الأشياء وأوضحها، وبدلاً من الجدل حول القيم العليا والعقائد يكون الحل أمامنا في الحياة اليومية وفي تفاصيل صغيرة قد تبدو غير مهمة للكثيرين، لذا نتساءل لماذا لا ندرس التجربة التركية في التنمية الاقتصادية؟ لما لا ندرس التجربة التركية في مكافحة الفساد؟

الإشكالية التي يقع فيها الكثيرون أنهم يعتبرون أن محاربة الفساد والتنمية الاقتصادية هي من المسلمات وبالتالي لا داعي لنقاشها، وكأنها ستتحقق بشكل تلقائي لو وصلت هذه الجهة أو تلك إلى الحكم والقيادة، ودوماً كان الاصطدام بجدار الواقع المرير أن الفساد مستشر في أركان الدولة بحيث لا يمكن إزالته بقرار رئاسي أو برلماني، وبينما الكل يلعن الفساد والكل يعلن التزامه بتوفير سبل الحياة الاقتصادية الكريمة للمواطن نجد عجزاً مزمناً بالوفاء بهذه الالتزامات.

المشكلة تكمن في التبسيط المخل لمسألة محاربة الفساد، والاعتقاد الخاطئ أنه أمر ممكن فقط من خلال النوايا الحسنة، صحيح أن النية ضرورية لكنها لا تكفي، يجب أن تكون هنالك آليات للمحاسبة والمراقبة ويجب أن تكون هنالك ثقافة عامة صحيحة وسليمة تساعد على محاصرة الفساد المالي.

والفساد لا يقتصر على أشكاله الفجة والمباشرة مثل الرشاوي والاختلاسات والسرقة والمحسوبية والواسطة، بل يأتي بأشكال غير مباشرة لكنها خبيثة وأكثر خطراً، مثل ما يسمى بفحص السلامة الأمنية (أو حسن السيرة والسلوك) الذي تستخدمه الأنظمة العربية لجعل الوظيفة العمومية تحت رحمة الأجهزة الأمنية وحكراً على أعضاء الحزب الحاكم، ومثل الطريقة التي تتحكم بها الأنظمة العربية المعاصرة بتراخيص الصناعة والتجارة تحت مسميات مختلفة مثل مكافحة النفوذ الأجنبي أو التخطيط المركزي أو منع الاحتكار بينما النتيجة تكون معاكسة تماماً بحيث تحتكر مجموعة فاسدة (من داخل النظام الحاكم) كل الاقتصاد الوطني وتتعامل مع الدولة وكأنها مزرعة خاصة تملكها.

وكل هذا يجري تحت إطار ثقافي يشجع الفساد بكافة أشكاله، ففي ثقافتنا السياسية العربية نعتبر المال العام ملكاً شخصياً لرأس النظام فنتكلم عن "مكرمة" حكومية أو مكرمة ملكية أو مكرمة رئاسية، ونعتبر أن الحاكم مخول بالتصرف بالمال العام بدون محاسبة، ولذا فإن ظن الكثيرين بأن الثورات العربية ستأتي بالرخاء الاقتصادي بمجرد إتاحة حرية الرأي والاختيار الحر للقيادة السياسية لهو ظن خاطئ وقاصر.

للأسف لا يوجد نقاش جدي حول طرق الرقابة على المال العام وطرق مكافحة الفساد كخطوة على طريق تشجيع التنمية الاقتصادية، فهنالك علم كامل متكامل جعل من الغرب دولاً مزدهرة بالرغم من أن خلفيتهم الفكرية والثقافية تعتبر الفضيلة أمراً ثانوياً وغير مهم، لكن ومن خلال التجربة الذاتية توصل الغربيون إلى آليات وطرق للمحاسبة والرقابة ولجعل الدولة خادمة لشعبها وليس العكس.

ولعله من المفيد أيضاً في هذا المقام أن نستفيد من التجربة الأمريكية (وللأسف نقلد الأمريكان في كل شيء إلا ما يمكن أن يكون مفيداً لنا)، فالثورة الأمريكية كانت شرارتها الاعتراض على الضرائب التي كان يفرضها ملك بريطانية دون أن يرى الأمريكان أنهم يستفيدون منها، ورفعوا وقتها شعار "لا ضرائب بدون تمثيل"، أي أنه يجب أن يكون هنالك رقابة من نواب عن الشعب على كل دولار تنفقه الحكومة، فلا يكفي أن ننتخبك لتكون رئيساً بل يجب أن نراقب أداءك وأن نراقب أداءك المالي وأين ستصرف أموالنا.

ما توصل له الأمريكان وغيرهم من خلال تجربتهم الذاتية هو من جوهر شريعتنا الإسلامية إلا أننا لم نترجمه على الأرض، واكتفينا بالمطالبة بتطبيق الحدود وبعض المظاهر والقشور التي تؤكد على إسلامية المجتمع، فقد حرم العلماء في القرون الوسطى الجمارك والمكوس لأنها أكل لمال الناس بالباطل، فما يملكه المسلم لا يجوز أن يأخذه الحاكم لجيبه الخاص، واشترطوا لأخذ مال الناس أن ينفق في مصلحة الناس أنفسهم وأن لا يكون للدولة موارد أخرى.

تركيا كانت دولة غارقة في الفساد وتنتشر فيها المفاهيم الخاطئة حول الشأن العام والمال العام، فكان من الطبيعي أن تكون دولة متخلفة اقتصادية مثلها مثل الدول العربية اليوم، لكن منذ أن جاء أردوغان بدأ من الاقتصاد وبدأ من تحسين ظروف الناس المعيشية وحتى يحقق ذلك فكان عليه أن يقضي على بؤر الفساد وأن يقضي على الثقافة التي تعزز الفساد وتديمه.

فاستطاع أن يحقق قفزات ونمواً اقتصادياً كبيراً، واستطاع أن يحاصر العلمانيين ويقضي على الكثير من معاقلهم ويقلص من القيود والأغلال التي فرضوها منذ أيام أتاتورك، واستطاع أن يطبق جزءاً من الشريعة الإسلامية (أليست محاربة الفساد والسرقة من الشريعة؟).

وكان من نتيجة ازدهار الاقتصاد التركي أن أصبحت قوة سياسية، فما دام جميع العالم يمتلك علاقات اقتصادية معها وما دامت الحكومة تتمتع بدعم شعبي واسع وما دامت دولة غنية (نسبياً) فبإمكانها أن تخوض مواجهة مع الكيان الصهيوني دون أن تخشى أي تبعات أو عقوبات.

أما نحن فدوماً نبحث عن الحل من أعلى نريد دولة قوية عسكرياً ونريد أن نبحث عقيدة الدولة وشكل الحاكم وشكل القوانين وأن نزاحم الدول الكبرى لكن نفشل دوماً، والسؤال لماذا لا نبدأ من حيث بدأ أردوغان والأتراك؟ لنبدأ من الاقتصاد، لنبدأ من مكافحة الفساد، لنرسل من يدرس التجربة التركية في التنمية الاقتصادية ونستفيد منها، لننشر ثقافة سليمة ولنرسخ في أذهان الناس أن الدولة ليست ملكاً لأفراد ولا لأحزاب بل ملك للجميع، وأن ما يجمع من ضرائب أو عوائد البترول هو ملك للجميع وليست مالاً سائباً يمكن الاعتداء عليه بطرق وأشكال مختلفة.


ليست هناك تعليقات: