الثلاثاء، 5 مارس 2013

القادمون إلينا بلا استئذان


 
حل الربيع هذا العام مبكرًا مصطحبًا معه زائرين قد حلوا بديارنا دون استئذان، وكيف يستأذنون وهم الزوار المدمنون الذين لا يتركون ربيعًا يمرّ دون أن يزوروننا ويدخلوا البهجة على قلوبنا ويتحفوننا بألوانهم الزاهية البديعة.


شقائق النعمان في الربيع

لنخرج معًا نستقبلهم هنالك في الجبال الخضراء بعيدًا عن ضوضاء المدن وصخبها وألوانها الباهتة، وأول ما يستقبلك زهور شقائق النعمان بلونها الأحمر الباسم تتمايل بين العشب وكأنهن غادات ممشوقة القوام تلعب وتلهو على بساط أخضر ولن تجد هنا وردةً جورية تختال بزينتها المتكلفة، فكل ما هنا بريء جماله رباني لم تعبث به يد إنسان، جمال بسيط لم تلعب به علبة الألوان المصطنعة، هنا الروعة التي تأسر العقول والألباب.


أشجار اللوز في الربيع
ستبصر أشجار اللوز وقد زينتها باقة من زهور بيضاء موشحة بلون زهري خجول كأنها طرحة عروس، وقد تبصر بين الأعشاب زنبقة سوداء مخملية تجلس بوقار تحت شجرة زيتون أو تتوارى عن الأبصار خلف أعشابٍ برية، فالكل هنا يأتي بلا دعوة مسبقة وبلا تخطيط إلا تخطيط رب العالمين فتبارك الله أحسن الخالقين.


ولن تخطئ عيناك بساتين الزيتون ولا أشجار الزيتون القديمة فتقف متسائلًا كم عمرها؟ خمسون عامًا أم مئة أم مئتين؟ وماذا شاهدت هذه الزيتونة على مدار تلك السنوات؟ كم من المزارعين قطفوا ثمارها وكم من الأجيال تقلبت على العناية بها وكم من المارة استظلوا بأفيائها كم وكم، ماذا كانت ستقول لنا لو تكلمت وقصت لنا حكايتها؟ 


وما هي القصص التي كانت لترويها لنا شجرة الصنوبر الشامخة التي تكشف الجبل والواد من عليائها كأنها ملكة هذه الجبال وولية أمرها، يا ترى كم شاهدت من بشر مروا من أمامها أو على مرأى من بصرها؟ كم من جيوش الفاتحين أبصرتهم يسيرون أسفل الوادي؟ وكم من المهزومين لمحتهم وهم يختبئون بين صخور الجبال وكهوفها؟ وكم من الأطفال شاهدتهم وهم يلعبون بين أشجار الزيتون وقد أتوا مع أهلهم ليحرثوا الأرض بعد هطول الأمطار؟


طائر الهدهد
وبينما خيالك يحلق في التاريخ بعيدًا تعيدك الأصوات الموسيقية العذبة للطيور سكان شجرة الصنوبر إلى الحاضر فهذا طائر أبو زريق يهبط  ليتناول من خشاش الأرض طعامًا له وبجانبه طائر الهدهد وتاجه الوقور، فيما يحلق بالأعلى سرب من طائر الدوري (الدويري) وقد تلمح طائر الشحرور ببدلته السوداء وهو يتنقل على أغصان الشجرة من التي سلمت بعد الثلجة الأخيرة.


زهرة قرن الغزال (الزعمطوط)
ولو دققت النظر قليلًا لرأيتها رقيقة وجميلة بلونها الأرجواني البهي وهي تختال على طرف صخرة عظيمة (أو قلعة كما يسميها الفلاحون)، رقيقة لكن قوية بما يكفي لتنبت بأصعب الأماكن وأصعب الظروف، إنها زهرة قرن الغزال وقد انحنت تواضعًا لخالقها لم تغتر بجمالها الأخاذ ولا بقوتها اللافتة.


ولو كان بصرك قويًا بما يكفي قد تسترق نظرة إلى غزالة وهي تركض أمامك بوجل، لكن انتبه! فالنظرة الأولى لك أما الثانية - حسنًا حاول أن تظفر بها، ولا تفكر بأكثر من ذلك فأنت لست أهلًا لذلك، وقد تلمح عيناك طيف طائر الشنار يقطع الدروب أمامك ليتوارى بسرعة البرق خلف الشجيرات، إنه طائر لا يطير مثل الدجاج لكن هنا في جبال الحرية لا مكان للداوجن أو المدجنين.


طائر اللقلق
وقد تصادف صاحب الأرجل النحيلة طائر اللقلق (أو أبو سعد كما يعرفه أهل البلد) وهو يأخذ استراحة خلال رحلة العودة الطويلة التي يخوضها كل ربيع من أفريقيا حيث مشتاه إلى أوروبا حيث مصيفه، مما يجعله سائحًا عالميًا بامتياز، يا الله كم أغبطه واتمنى لو أن لي جناحين مثله أطير عبر الحدود كلما شئت أزور البلدان بدون ختم الجواز وبدون استئذان، أحل حيثما شئت وأرحل متى أردت.


عصفور الشمس الفلسطيني
ولو يممت نظرك نحو أزهار الأشجار والشجيرات وكنت صبورًا بما يكفي لصادفت عصفور الشمس الفلسطيني وهو يجمع رحيق الأزهار ليطعم أطفاله، لا تكلف نفسك وتحاول إبصار جناحيه وهما يخفقان، فهذا المخلوق العجيب يضرب جناحيه أكثر من ثمانين مرة في الثانية فلا تبصرها عين الإنسان، فقط متع عينيك وهو يتنقل بين الزهور كأنه نحلة بحجم قبضة اليد، طائر جمع رشاقة النحل مع جمال الطيور.



وربما تصادف أثناء تجوالك وترحابك بأهل الربيع المقيمين والعابرين كومة من صخور أو جدران حجرية تدل على بقايا بيت مهدم، كان "أهل زمان" يستخدمونه للسكن عندما يأتون إلى هذه الجبال، ليحرثوا أرضهم أو يحصدوا زرعهم، وتسأل نفسك يا هل ترى كم كانوا يقيمون هنا؟ هل كانوا ينامون لأيام قليلة أم لشهور عديدة؟ كيف كانوا يتنقلون وأي سيارات كانوا يركبون؟ لماذا هجر أحفادهم هذا الجمال الرباني؟ أيعقل أن يتركوا جنة الله على الأرض ويسكنون غابات الإسمنت؟ من يستبدل طريقًا مليئة بالورود والزهور والأشجار اليانعة ليخوض شوارع الأسفلت؟




ملحق، أنا وطائر الشمس الفلسطيني: 



أول مرة تعرفت عليه وأنا طفل عندما كنا نزور بيت أقاربنا، وكنا نصعد إليه وعند شرفته كان أغصان شجرة البرتقال تعج بأنواع الطيور وقد لمحته يتنقل مثل النحلة الكبيرة بين زهور البرتقال.


ظننته بادئ الأمر من طيور الزينة التي هربت من أقفاصها لكن كل مرة كنت أشاهده وأحيانًا أشاهد زميله فأدركت وقتها أنه طائر بري، وعرفت من يومها أن الجمال الطبيعي هو الجمال الحقيقي لا الذي امتدت إليه مساحيق العبث.


وكنت في تلك الأيام شغوفًا بالقراءة وقد لمحت شبيهه الطائر الطنان بأحد الكتب العلمية، وعند كتابتي لموضوعي هذا وبحثي عن النباتات والطيور المذكورة يوم أمس اكتشفت أن طائر الشمس ليس نفسه طائر الطنان وإن كانا شديدا الشبه.  

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

السلام عليكم
موضوع رائع جدا جعلنا نكتشق شخصية أ. ياسين من جوانب جديدة ونبلغ كنهه وشعوره الرقيق نحو الربيع وما يمثل له ، بأسلوب جذاب ، عهدناك في المحور السياسي ، ابدعت ووفيت وكانت بصماتك فيه بادية ، وجاء هذا الموضوع الرائع ليسلط الضوء على احساس مرهف للكاتب وخيال واسع ورقة وحنان وطيبة وابداع :)
جزاكم الله خيرا وبارك الله فيك

ياسين عز الدين يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
شكرًا جزيلًا على هذه الكلمات الطيبة.

Unknown يقول...

بورك قلمك مقال رائع وبعيدا عن الدواعش كان ممتع ومريح للقلب والنفس