الخميس، 12 سبتمبر 2013

في الذكرى العشرين لاتفاقية أوسلو: أين الإنجازات وما هي الإخفاقات؟

      

تمر علينا يوم غد الجمعة (13/9/2013م) ذكرى مرور عشرين عامًا على توقيع اتفاقية أوسلو والتي شكلت مفصلًا هامًا في تاريخ القضية الفلسطينية، وفي الوقت الذي يوجد شبه إجماع داخل الحركة الوطنية الفلسطينية على رفض أهم خطايا اتفاقية أوسلو؛ أي الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، فمن الضروري عمل جرد حساب للاتفاقية والنهج التفاوضي بعد مرور عشرين عامًا، نتناول فيه بشكل موضوعي إيجابيات وسلبيات الاتفاقية.

ومن الضروري الإشارة إلى أن اتفاقية أوسلو لم تكن وليدة لحظتها بل كانت تتويجًا لمسيرة سنوات طويلة من تسول المفاوضات والتسوية مع الاحتلال الصهيوني، لذا سنبدأ بدراسة الظروف التي سبقت الاتفاقية والمناخ الذي أنتجها.

خلفية تاريخية:


كان واضحًا اتجاه منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات نحو فتح قنوات تفاوضية تهدف إلى إيجاد تسويات سلمية مع المحتل الصهيوني منذ بداية السبعينات، وبرنامج النقاط العشر والذي قيل أن هدفه هو إقامة دولة فلسطينية على أي شبر يتم تحريره (وهو ليس عيبًا من حيث المبدأ) إلا أنه كان مجرد تمهيد للسير في طريق التسويات التفاوضية التي أوصلتنا إلى أوسلو وأبنائها.


خاض عرفات صراعا مريرا مع الملك
على حق تمثيل الشعب الفلسطين
كما أن حركة فتح ومنذ دخولها منظمة التحرير عام 1969م (وربما قبل ذلك) عانت (وما زالت حتى اليوم) من عقدة التمثيل الفلسطيني، وخاضت صراعًا طويلًا ومريرًا مع النظام الأردني من أجل انتزاع حق تمثيل الشعب الفلسطيني، وقامت بإفشال تجربة محاولة الاحتلال إنشاء قيادة بديلة تحت مسمى "روابط القرى" بداية الثمانينات، كما خاضت صراعًا مع المنشقين والفصائل الموالية لسوريا في لبنان من أجل نفس العقدة، وأخيرًا صراعها الطويل مع حماس، وبوصلة فتح والمنظمة واحدة طوال الوقت "عقدة التمثيل الفلسطيني".



ولهذا السبب نجد أن هم حركة فتح اليوم هي انتخابات في الضفة والقطاع تفوز بها (حتى لو بالتزوير)، وبعدها فليحصل ما يحصل لا يهمها كثيرًا، المهم أن يقال أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.


صراع المنظمة بقيادة فتح وياسر عرفات من أجل انتزاع حق تمثيل الشعب الفلسطيني كان يهدف (أو هكذا زعموا) لكي يكون القرار الفلسطيني مستقل عن الأنظمة العربية التي كانت تتاجر بالقضية الفلسطينية، وذلك حتى نستطيع المضي قدمًا نحو تحرير فلسطين، لكن مع الوقت أصبح التمثيل الفلسطيني غاية بحد ذاته وليس وسيلة، ومن أجل انتزاع التمثيل الفلسطيني كانت فتح مستعدة للتفريط بفلسطين نفسها (كما سنرى بعد قليل).


كما عانت القضية الفلسطينية من سلسلة من النكسات والنكبات منذ هزيمة عام 1967م، فمن ضياع ما تبقى من فلسطين إلى خسارة الجبهة الأردنية بعد أحداث أيلول، وانكفاء المقاومة الفلسطينية إلى الجبهة اللبنانية ثم تورطها في الحرب الأهلية اللبنانية وانتهت بإخراج قوات المنظمة من لبنان بعد اجتياح عام 1982م وتلاها اقتتال فلسطيني داخلي في مخيمات لبنان بين فتح والفصائل المؤيدة للنظام السوري.


لقد ساهم كل ذلك بإضعاف أوراق الضغط التي تملكها حركة فتح والمنظمة ضد الصهاينة، كما أصبحت عاجزة عن المضي قدمًا بأي برنامج تحرير وطني، وفي ظل رغبة ملحة بدخول عملية تسوية مع الكيان الصهيوني منذ السبعينات (بعد الخروج من الأردن)، كان لدى عرفات والمنظمة خيار وحيد؛ ألا وهو تسول المفاوضات مع الاحتلال الصهيوني، أما الصهاينة فقد كانوا يرفضون مبدأ التفاوض مع جماعة "إرهابية"، فقد كانوا يعيشون في وضع مثالي ويديرون احتلال "ديلوكس" في الضفة والقطاع ولا يوجد أثمان يدفعونها.


الانتفاضة الأولى ومقدمات أوسلو:


في مقابل ذلك كان الرأي العام داخل الضفة الغربية وقطاع غزة يمر بعملية تحول، فلسنوات طويلة كان الرأي السائد داخل الضفة والقطاع بما فيه جماعة الإخوان المسلمين أن التحرير سيأتي من الخارج، فما عجزت عنه الجيوش العربية لن يستطيع إنجازه شعب محتل أعزل، إلا أن تتالي النكسات التي أصابت منظمة التحرير وسياستها، دفعت الشباب الفلسطيني للتفكير بطريقة مغايرة، فخسارة كافة المواقع الكفاحية خارج فلسطين تستوجب أن يحمل أهل الداخل راية الكفاح والمقاومة.


وهكذا بدأنا منذ عام 1982م وفي ظل اجتياح لبنان والاعتداءات على الأقصى نشهد تصاعدًا في الحراك الشعبي المناهض للاحتلال داخل الضفة والقطاع، وبدأت تتزايد عامي 1985م و1986م، بحيث أصبح الرأي العام معبأ إلى أقصى الدرجات فيما ساد توجه داخل جماعة الإخوان المسلمين نحو الاهتمام بالعمل المقاوم المسلح منذ بداية الثمانينات.


فجاءت الانتفاضة الأولى عام 1987م وتأسيس حركة حماس تتويجًا لعملية التحول، وفتحًا لجبهة جديدة تحارب الاحتلال الصهيوني بعد إسكات الجبهات الأخرى، وهكذا تحول الاحتلال الديلوكس إلى معضلة وعبء مزمن.


فوجدت قيادة المنظمة فرصة ذهبية لتطرح نفسها كجهة قادرة على إنقاذ الاحتلال من مأزقه مقابل عقد تسوية سياسية معها (حلمها القديم)، وبدأت تحاول فتح قنوات مع الاحتلال الصهيوني مستخدمة ورقة الانتفاضة ومستغلة شعبية عرفات الطاغية بين الجماهير الفلسطينية.


إلا أن العدو الصهيوني يتميز بعقلية مليئة بالعنجهية ومستوى عدائية عالٍ، كما أن حجم الضغط الميداني عليه لم يصل إلى حد يكسره ويجبره على التفاوض، فعلى سبيل المثال عدد من قتل من الصهاينة على يد المقاومة بين عامي 1987م و1993م لم يتجاوز 150 قتيلًا على أكثر تقدير، مقارنة بأكثر من 250 قتيل في الفترة بين توقيع اتفاقية أوسلو وبين انطلاق انتفاضة الأقصى، وأكثر من 1200 قتيل خلال انتفاضة الأقصى (لحد عام 2006م).


وهنا يجب التذكير بحقيقة مرة وهي أننا نواجه عدوًا غير سهل إطلاقًا، فالكيان الصهيوني يمتلك من الإمكانيات العسكرية والأمنية والمالية والبشرية والدبلوماسية، ما تعجز عن مقاومتها دول بأكملها فما بالك بشعب أعزل تآمرت عليه الأنظمة العربية منذ عشرات السنوات؟ ولعل إدراك قادة المنظمة لهذه الحقيقة هو ما دفعهم منذ البدء للذهاب باتجاه خيار التسوية وتحصيل ما يمكن تحصيله من الاحتلال، لكن ما يهمنا هنا هو أن الخطأ الأول للمنظمة هو استعجال التسوية السلمية.


فالصهاينة لم يصلوا إلى مرحلة الانكسار والقبول بتسويات سلمية، لذا بقيت لغة خطابهم ومطالبهم عالية جدًا، وكان من المبكر جدًا الكلام عن تحصيل إنجازات من الانتفاضة خاصة وأن التحول من المقاومة الشعبية إلى المقاومة المسلحة لم يبدأ على نطاق واسع إلا عام 1992م، وحتى عندما انطلق بقي قليل الأثر وكان بحاجة لوقت لكي يتراكم ويشكل ضغطًا حقيقيًا.


التشكيلات الشعبية المحلية في الضفة والقطاع هددت نفوذ عرفات
لكن منظمة التحرير استعجلت لسببين: الخوف من قوة حماس المتنامية، والخوف من ظهور قيادات بديلة داخل الضفة والقطاع، حيث ظهرت تشكيلات محلية لا تتلقى أوامرها من الخارج مثل أجنحة فتح العسكرية صقور فتح والفهد الأسود، وجناح المقاومة الشعبية لفتح "كتائب الشهيد أبو جهاد"، وفي كلتا الحالتين كان ما يحرك عرفات هو عقدة التمثيل الفلسطيني.

الأسير أحمد كميل أحد قادة الفهد الأسود

ولهذا السبب حرصت أدبيات فتح لاحقًا ولتبرير اتفاقية أوسلو الحديث عن سلبيات الانتفاضة وعن الاختراقات المزعومة التي تعرضت لها كتائب أبو جهاد، فكان المطلوب بقاء عرفات وقيادة فتح خارج فلسطين هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.


اتفاقية أوسلو:


وتحت ضغط الخوف من تهميش هذه البدائل لدور عرفات والمنظمة كان هنالك حرص على سرعة التوصل إلى أي اتفاق، وهكذا نجد أن عرفات قبل بأن تعترف المنظمة بحق الكيان الصهيوني بالوجود مقابل اعتراف بأن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؛ ولم يكن اعترافًا بحق الفلسطينيين بإنشاء دولتهم لأن هذا لم يكن هاجس عرفات كما أن موازين القوى لم تكن تسمح بانتزاع هذا الاعتراف من الصهاينة.


وأتصور أن حرب الخليج الأولى ومحاصرة منظمة التحرير كان لها دور ثانوي في دفع المنظمة إلى توقيع اتفاقية أوسلو، لأن القرار موجود منذ قبل حرب الخليج والممانعة كانت من جهة الصهاينة، ومفاوضات مؤتمر مدريد كان شامير ينوي (كما اعترف لاحقًا) الاستمرار بها إلى عشرين عامًا دون التوصل إلى أي نتيجة.


ما غير الموازين هو صعود اسحق رابين وحزب العمل إلى الحكم داخل الكيان الصهيوني، حيث كانت لديه رؤية وهي استيعاب منظمة التحرير وياسر عرفات والسماح لهم بإدارة الشأن الفلسطيني الداخلي تحت عين ورقابة الصهاينة، أي إعادة إنتاج مشروع روابط القرى لكن مع تغيير الوجوه.


أما حركة فتح وياسر عرفات فقد سوقوا لأوسلو سببين أساسيين: إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحديدًا وقف الاستيطان، والحصول على موطئ قدم من أجل تحصيل المزيد وفق مبدأ "خذ وطالب".


وعلى عكس ما يحاول إيهامنا كبير المستكشفين والمفاوضين صائب عريقات فالإنجازات التي جاءت بها أوسلو، لم تكن نتيجة لذكاء ودهاء المفاوض بل تحصيل حاصل لموازين القوة على الأرض.


حيث فقد الصهاينة السيطرة على الوضع داخل المدن والقرى والمخيمات في الضفة والقطاع، فيما كانوا يحكمون سيطرتهم على باقي مناطق الضفة والقطاع سواء تكلمنا عن المستوطنات أو معسكرات الجيش أو الطرق الرئيسية، وهكذا جاءت اتفاقية أوسلو: تسليم إدارة الشأن المحلي الفلسطيني إلى السلطة الوليدة، وتأجيل مسألة الاستيطان واللاجئين إلى الحل النهائي.


وهكذا أسقطت فتح أول سبب دفعها للقبول بأوسلو (كما كانت تردد) ألا وهو وقف تغول الاستيطان، وبالفعل تضاعف الاستيطان داخل الضفة ثلاث مرات منذ توقيع أوسلو حتى اليوم، حتى في غزة عجزت الاتفاقية عن تفكيك ولو نصف مستوطنة رغم أن الصهاينة كانوا مستعدين للانسحاب من القطاع كما كانت تصريحات شركاء رابين من حزب ميرتس أوائل عام 1993م والذين طلبوا الانسحاب من جانب واحد، لكنه طلب منهم الصبر والانتظار لحين إتمام الاتصالات من أجل الوصول إلى تسوية.


وراهن عرفات على السبب الثاني أي مبدأ خذ وطالب، وبالفعل قام بتحصيل عدة إنجازات أهمها في رأيي عودة أكثر من مئة ألف فلسطيني إلى الضفة والقطاع ممن كانوا يعملون مع منظمة التحرير في الخارج (وهكذا حلت أهم مشاكل منظمة التحرير بعد حرب الخليج ولهذا السبب كان بعض المحللين يقولون أن أوسلو جاءت لإنقاذ المنظمة وليس لإنقاذ القضية الفلسطينية)، كما تمت تسوية أوضاع حوالي مئة ألف فلسطيني كانوا يقيمون في الضفة والقطاع بشكل "غير قانوني" وتم منحهم بطاقات هوية.


وللحق فإن هذا الإنجاز يسجل لعرفات ولأوسلو فإضافة مئتي ألف فلسطيني على التعداد السكاني داخل فلسطين التاريخية هو إنجاز هام على صعيد الصراع الديموغرافي مع الكيان الصهيوني، لكنه مثل باقي الإنجازات تحصيل حاصل: فالمقيمين غير القانونيين موجودين ولا يمكن طرد مئة ألف بسهولة، وعودة أعضاء منظمة التحرير والعاملين فيها ضروري من أجل إنشاء قاعدة اجتماعية للسلطة التي ستدير مشروع "روابط القرى" المحسن.


وفي حين رفع الاحتلال يده عن الكثير من مناحي الحياة التي لا تهمه مثل التربية والتعليم والصحة، حرص على بقاء سيطرته على ما يتيح له الضغط على الشعب الفلسطيني متى شاء، فبقيت المعابر تحت سيطرته، وبقي الاقتصاد الفلسطيني تابع للاقتصاد الصهيوني بشكل مطلق، وأبقى على سيطرته على المستوطنات كاملة، وليس ذلك فحسب بل سيطر على المناطق المحيطة بالمستوطنات لكي يوسعها بكل أريحية متى شاء، واستمر بالسيطرة على مفاصل المواصلات الرئيسية في الضفة والقطاع.


ما بعد أوسلو:


حرصت السلطة الفلسطينية بعد دخول عملية أوسلو على فرض أجندتها التفاوضية دون أي شرعية شعبية، ورفضت طرح الاتفاقية على الاستفتاء، وعملت على إجبار الجميع على احترامها، مما أدخلها في صدام مع حركة حماس والتي كانت مستمرة في مشروعها لتصعيد المقاومة المسلحة، وذلك إيمانًا من حماس بأن الانتفاضة لم تنته بعد وأنه يجب تصعيد الضغط على الكيان وأنه ما زال الوقت مبكرًا لقطف ثمار الانتفاضة.


وفي ظل عدم وجود مشروعية لاتفاقية أوسلو وتضاد المشروعين حصل منذ اليوم الأول صدام بين الحركتين، ولعل مجزرة مسجد فلسطين أواخر عام 1994م (بعد شهور قليلة من تأسيس السلطة) كانت مؤشرًا على مدى تناقض المشروعين، إلا أنه أمكن التوصل إلى تفاهم بين الجانبين ضمن ما عرف بتفاهمات الخرطوم نهاية عام 1995م والتي نصت على أن لا تحرج حماس السلطة بعملياتها مقابل وعود بإعادة بناء منظمة التحرير.


كان مبدأ عدم إحراج حماس للسلطة بالعمليات يقوم على أن يواصل عرفات تحصيل ما يمكن تحصيله من خلال المفاوضات (حيث كانت المباحثات للانسحاب من مدن وقرى جديدة من الضفة الغربية)، وأن تخفف حماس من عملياتها حتى لا تتسبب بوقف هذه الانسحابات، وفي نفس الوقت تكون حماس متمسكة بخيارها المسلح.


إلا أنه لا المنظمة أعيد بناؤها ولا حماس فهمت بند عدم الإحراج مثلما فهمته السلطة، فحماس فهمت أنه تخفيف للعمليات ومراعاة عمليات الانسحاب، بينما السلطة فهمته بأنه جر لرجل حماس نحو القبول بأوسلو.


الأسير حسن سلامة: العقل المدبر لعمليات الثأر ليحيى عياش
لذا وبعد اغتيال الشهيد يحيى عياش فهمت حماس أنه من حقها الانتقام له، الأمر الذي أثار غضب السلطة وأطلق يد أجهزتها الأمنية لاعتقال وتعذيب عناصر وقادة حماس بمن فيهم الشهيد إبراهيم المقادمة والذي اتهم في حينه بتأسيس "جهاز خاص" للقسام، في إيحاء إلى الجهاز الخاص للإخوان في مصر، وذلك تمهيدًا لقمع مماثل لما تعرض له الإخوان في مصر.


لقد كان ذلك بمثابة مؤشر على بداية تدجين الصهاينة لحركة فتح ولمنظمة التحرير ضمن منظومة التنسيق الأمني، إلا أن عرفات حافظ على مبدأ "خذ وطالب"، وحرص على استغلال انتفاضة النفق عام 1996م وحاول إشعال انتفاضة جبل أبو غنيم عام 1997م من أجل الضغط على الصهاينة، ورفض الضغوط لإحداث تسوية دائمة في كامب ديفيد عام 2000م لأنه لم يرد تسوية دائمة بل أراد سلسلة تسويات مؤقتة ينتزع في كل منها بعضًا من الحقوق الفلسطينية.


ومشكلة عرفات أنه راهن على "شطارته" في المفاوضات وتجاهل أن الصهاينة يملكون من القوة والذكاء ما يجعلهم يدركون أهدافه وما يمكنهم من احتوائه واحتواء السلطة، وعندما جاءت انتفاضة الأقصى والتي حاول استخدامها لرفع سقف المطالب الفلسطينية، قرر الصهاينة التخلص منه والإتيان بقيادة فلسطينية مدجنة.


ولا شك أن انتفاضة الأقصى شكلت ضغطًا كبيرًا على الصهاينة دفع بشارون إلى إعادة ترتيب الأوراق من خلال قراره التخلي عن غزة والانسحاب منها في أيلول عام 2005م من جانب واحد؛ وهذا أغضب حركة فتح المصابة بعقدة التمثيل الفلسطيني وأنه يجب أن يمر كل شيء من تحت يدها، ودفع محمد دحلان إلى تقديم هدية مجانية للصهاينة (اتفاقية معبر رفح لعام 2005م والتي ضمنت سيطرة الاحتلال غير المباشرة عليه) فقط لكي تبقى السلطة في المشهد وصورة الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.


كما بدأ محمود عباس عهده رئيسًا للسلطة (ومن قبلها أثناء رئاسته للوزراء) بمحاولة احتواء حماس، من خلال إقناعها بقبول التهدئة أكثر من مرة، لكنه كان يهدف لأكثر من مجرد التهدئة بل كان يخطط لنزع سلاحها، وكان يأمل أن تكون انتخابات 2006م مدخلًا لنزع سلاح حماس بشكل نهائي لكن نتيجتها جاءت على عكس ما كان يأمل.


وانتهت الأمور بالصدام بين الحركتين وما سمي بالانقسام، وسيطرة حماس على القطاع وبقاء الضفة تحت سيطرة السلطة، إلا أن أوسلو بقي مخيمًا على الواقع الفلسطيني بما فيه قطاع غزة الذي استمرت محاصرته اقتصاديًا بحجة أوسلو والتزاماتها.


وكانت النتيجة عمليًا تدجين السلطة الفلسطينية تحت تهديد تكرار ما حصل مع عرفات، وأصبحت أجهزتها الأمنية منسجمة مع المنظومة التي أسس لها رابين، وتحقق ما يريده أي احتواء منظمة التحرير تحت عباءة الاحتلال.


وفقدت السلطة كافة أدوات الضغط التي يمكن أن تمارسها على الاحتلال، مع تخليها عن مبدأ خذ وطالب، وهجرانها للأساليب العرفاتية القائمة على تصعيد الوضع الميداني من أجل تحسين الموقف التفاوضي.


وعدنا إلى المربع الأول: مربع بداية الثمانينات عندما كانت منظمة التحرير تتسول التفاوض مع الاحتلال مقابل أي شيء، فقط أعطونا أي شيء، فيما الاحتلال لا يشعر بأنه مجبر على إعطاء أي شيء للسلطة (المنظمة)، فالوضع في مناطق سيطرة السلطة هادئ جدًا والاستيطان يتوسع بدون أي قيد، والسلطة تقدم الخدمات الدبلوماسية والسياسية للاحتلال بدون قيد أو شرط، فلماذا يتنازل المحتل؟


أوسلو في الميزان:


استمرار الاستيطان هو الفشل الأكبر لاتفاقية أوسلو والمفاوض الفلسطيني

يمكن مما سبق الاستنتاج أن اتفاقية أوسلو كانت تحصيل لموازين القوة على أرض الواقع، وبدلًا من أن تفكر السلطة بجعل اتفاقية أوسلو محطة في مسيرة الكفاح الفلسطيني، بمعنى أننا أنجزنا في الانتفاضة ونريد تحصيل الإنجازات ثم إكمال المقاومة بكافة أشكالها، جعلت من أوسلو غاية بحد ذاتها ومفاوضات من أجل التفاوض (الحياة مفاوضات).


أوسلو أنجزت إخراج الصهاينة من مراكز المدن، وتخفيف درجة تحكم الصهاينة بالحياة اليومية للمواطن الفلسطيني، وإعادة مئة ألف لاجئ فلسطيني وتسوية أوضاع مئة ألف آخرين، كما أنها حلت مشكلة منظمة التحرير التي فقدت كافة أسباب الدعم المالي والسياسي العربية بعد سلسلة من المغامرات الفاشلة وآخرها كانت حرب الخليج الأولى (وهي مشكلة خاصة بالمنظمة وليس القضية الفلسطينية).


في المقابل ورطت أوسلو حركة فتح ومنظمة التحرير في المنظومة الأمنية الصهيونية، وجعلتها رهينة بيد الاحتلال الصهيوني، كما عملت على شرعنة الاحتلال وتجريم المقاومة، وفشلت فشلًا ذريعًا بوقف الاستيطان وتغوله، وفتحت الطريق أمام المطبعين من الدول العربية ليمارسوا جريمة التطبيع بكل شرعية بحجة أنهم لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، كما تسبب بشق الصف الوطني الفلسطيني بين معسكري أوسلو والمقاومة.


وفي حين أن المدة القانونية لأوسلو قد انتهت (مدتها خمس سنوات تنتهي باتفاق تسوية دائم وهو ما لم يحصل)، وفي حين أن قدرة السلطة على تحقيق إنجازات للشعب الفلسطيني قد اختفت مع تخليها عن كافة أدوات الضغط على الاحتلال الصهيوني، فإن السلطة لا تبدو راغبة في الفكاك من أوسلو وقيوده، وليس أدل على ذلك من تحالف فتح والسلطة مع نفس الأنظمة العربية التي ضغطت على منظمة التحرير وحاصرتها وحاربتها وأجبرتها على الدخول إلى نفق أوسلو والتسوية؛ الأنظمة الخليجية، ونظام مبارك (السيسي)، والنظام الأردني.

ليست هناك تعليقات: