السبت، 28 سبتمبر 2013

يوم طاردني اليهود





أعادت مواجهات يوم أمس الجمعة والأيام التي سبقتها في الخليل والقدس ونابلس ورام الله وشرق غزة ذكريات الانتفاضة الأولى، عندما كان فتية وشبان في مقتبل العمر يواجهون المحتل بالقليل الذي يملكونه، بدون أن يخضعوا لتدريبات قاسية ومعقدة ودون أن تصلهم إمدادات المال والسلاح من أقاصي الأرض، فقط بعفوية وتلقائية بسيطة يتصدون بها لأعتى وأحدث جيوش العالم المعاصر.

ما زلت أتذكر جيدًا ذلك اليوم عندما كنت أسير في الشارع متوجهًا إلى المسجد لصلاة العصر، وكان الشارع ممرًا لسيارات المستوطنين وجيش الاحتلال، وما زلت أذكر الخط الأصفر الذي كانوا يرسمونه وسط الشارع ليدلوا سيارات المستوطنين على الطريق الواجب سلوكها كي لا يضلوا الطريق ويصلوا إلى وسط البلد أو أحد المخيمات فيكونوا فريسة سهلة للحجارة والشبان.

وكنت قد اعتدت منذ فترة أسابيع قليلة أن أرى شابين (عمرهما كان لا يتجاوز 18 أو 19 وربما أقل لكن كوني أصغر سنًا فقد كانوا بالنسبة لي شبابًا) يقفان عند مفرق الطريق، ويتبادلان الحديث ويسيران وسط الشارع، كنت أشك أن لهما دورًا بإلقاء الحجارة على سيارات المستوطنين، لكن لم يشغل بالي الأمر كثيرًا.

وفي ذلك اليوم وإذ اقتربت أثناء السير منهما فإذا بحافلة مستوطنين تمر من أمامنا، فإذا بهما يلقيان حجرين أو ثلاثة، و"طاخ ... طاخ" أصابت الحجارة نوافذ الحافلة البلاستيكية (المضادة للحجارة)، لم يتحطما طبعًا.
 
وأثناء همهما بإلقاء الحجارة كان هنالك طفل أصغر مني سنًا (ربما كان عمره 12 عامًا) وصاح بهما "استنى استنى"، فقد كان موقفه وموقفي لا نُحسد عليه، فلو أمسك بنا الصهاينة ما الذي سيقنعهم أنا لم نكن نلقي الحجارة؟ وخاصة أننا لم نهيئ أنفسنا لمواجهة (الكثير من المواجهات في حياتنا تفرض ولا نختارها) وما زلت أذكر وجهه الممتلئ وعيونه المرتبكة.

وما خشيه الطفل حصل فإذ بسيارة من خلفنا تقف بشكل مفاجئ، لقد كانت سيارة سوبارو بيضاء اللون، تحمل نمرة صفراء، وهي التي عادة ما كان يستقلها "السيفيل" كما كنا نطلق عليهم، وهم رجال أمن صهاينة بلباس مدني، وترجل منها رجل وصرخ "وقف وقف".

هل كان مستوطنًا أم رجل أمن؟ أم فلسطيني من القدس يريد أن يقول لنا لا تخافوا؟ هل كان سيطلق علينا النار؟ هل كانت نيرانه ستصيبني؟ هل كنت سأموت وأنا لم أفعل شيئًا؟ أو يقبضوا علي ويسجنوني؟ لو مسكوني هل سيقتنعون أني لم ألق الحجر؟ كيف سيقتنعون والذي ألقى الحجر كان يقف بجانبي؟ سيقولون لي على الأقل تعرف شكله؟

كلها أسئلة تزاحمت في رأسي مرة واحدة، لم أنتظر الإجابة عليها ولم أفكر بها، فأغبى شيء ممكن أن تفعله في هكذا مواقف هو أن تستخدم عقلك، قررت وبشكل تلقائي اللحاق بأحد الشابين اللذين ألقيا الحجارة، فإن نجا نجوت وإن لم ينجو... حسنًا قلت لكم ليس وقت التفكير.

لقد لحقته وهو يركض في حاكورة أحد المنازل، ووصلنا سور لم يكن مرتفعًا كثيرًا لكن ما وراءه كان يجب أن أقفز من ارتفاع مترين أو أقل أو أكثر لم يكن معي وقت لأفكر بالارتفاع، وكان بالأسفل كومة من الأغصان، هل ستحملني؟ هل بها أشواك تجرح؟ هل وهل؟ قفزت ولم ولا أعرف كيف هبطت لكني لم أكسر رجلًا أو ما شابه وأكملت الجري.

لم أكن في حياتي رياضيًا لكن يومها لو شاركت في سباق أولمبياد لقطع العوائق لأحرزت مدالية ذهبية أو فضية، في مثل هذه المواقف شغل كل شيء بجسمك إلا عقلك، دع يداك ورجليك يفكران عنك، لا تفكر والأهم لا تتردد، لا أذكر الطريق التي سرت بها وعند مرحلة معينة فقدت أثر الشاب، لكن اتبعت غريزتي بالركض.

في مثل هذه المواقف يعلم المرء جيدًا معنى هرمون الأدرنالين وكيف يعمل، غرفة عمليات ربانية تعمل في جسم الإنسان، تتناسق عضلات الساقين والقدمين والساعدين والعيون والآذان، بدون أن تفكر ماذا يفعلون، تترك الأدرنالين وغرفة العمليات الربانية تعمل وأنت منطلق.

بعد قليل خرجت إلى شارع من الجهة الأخرى شاهدني رجل كبير بالسن، سألني عن الذي حصل "شو فيه؟"، فأجبته ونشوة الانتصار تغمرني مع ابتسامة ماكرة "فش اشي"، وأكملت طريقي.

صحيح أني لم أختر أن أكون في ذلك الموقف لكني عرفت وقتها معنى قول الشاعر "وفاز باللذة الجسور"، كان بإمكاني أن أبقى وآمل وأدعو الله أن "يتفهم" الجنود أنه لا علاقة لي بإلقاء الحجارة وأتوسل رحمتهم، لكني اخترت الخيار الأكثر جسارة وجرأة.

المرء قبل أن يواجه عدوه يشعر بخوف شديد منه، وفي لحظة المواجهة ينسى كل المشاعر، وبعد انتهائها يشعر بنشوة الإقدام والمواجهة ولم يفعل شيئًا ذا قيمة.

هذه مشاعر أطفال الحجارة الذين ترونهم يقبلون كل يوم على مواجهة جنود الاحتلال بمعركة غير متكافئة، ولكل منهم قصة مختلفة لكن جميعهم قد أعجبتهم لعبة الرقص مع الموت، لعبة أطفال الحجارة.

تصوير المواجهات بالجوال: تكنولوجية لم تتوفر في الانتفاضة الأولى

ليست هناك تعليقات: