الخميس، 3 أكتوبر 2013

قراءة في جمعة الأقصى: أسباب النجاح ولماذا لم تطور إلى انتفاضة ثالثة؟



لا أخفيكم سرًا لو قلت أن نجاح الدعوات لجمعة الأقصى فاجأتني، فهذه أول مرة نشهد هذا النجاح لمقاومة شعبية في الضفة الغربية يخطط لها مسبقًا من حيث شدة المواجهة ومن حيث الانتشار الميداني.

ونتكلم هنا عن المقاومة الشعبية الحقيقية، مقاومة الحجر والمقلاع والزجاجة الحارقة، لا مقاومة الفوتوشوب ومسيرات الشموع والتصريحات الصحفية، المقاومة التي يجرح ويعتقل بها الشباب ويفقدون حياتهم والتي تؤذي العدو وتنكل به (حتى لو كان الميزان مختلًا)، فتنظيم فعالية فوتوشوبية من أجل التقاط الصور ولتغطيها فضائية الجزيرة أمر سهل، وقامت به السلطة عدة مرات في الأعوام الماضية.

والمقاومة الشعبية الحقيقية كانت انطلاقتها دومًا غير مخطط لها مسبقًا، منذ الانتفاضة الأولى وحتى الهبات الشعبية الأخيرة تضامنًا مع الأسرى بدايات العام الحالي أو ردًا على اعتداءات المستوطنين في المسجد الأقصى.

وكانت هنالك محاولات سابقة لخلق تحرك ميداني في الضفة ضد الاحتلال الصهيوني، وآخرها مسيرة القدس العالمية في السابع من حزيران من هذا العام في ذكرى احتلال المدينة عام 1967م، وفيما نجحت المسيرة في أغلب مناطق التواجد الفلسطيني إلا أنها فشلت في الضفة بتحريك الشارع باستثناء مسيرة في بلدة نعلين، حيث قامت فتح وماكنتها الإعلامية على وصم التحرك في حينه بأنه "حمساوي"، من أجل ردع المستقلين ومؤيدي فتح عن المشاركة به، وقد نجحت في مسعاها.

عوامل نجاح جمعة الأقصى:

هذه المرة اختلفت الأمور مع جمعة الأقصى وذلك من خلال العوامل الآتية:

أولًا، تولى التنسيق للمناسبة "ائتلاف شباب الانتفاضة ـ فلسطين"، وهو مكون من شباب يعملون خارج الإطار التنظيمي (وإن كان لديهم ميول وانتماءات سياسية من كافة ألوان الطيف)، مما أبعد عنها تهمة "الحمساوية" التي تردع شباب فتح عن المشاركة في مثل هذه النشاطات.

وصحيح أن فتح تعارض أي تحرك جماهيري حقيقي ضد الاحتلال إلا أن قاعدتها الشعبية تستطيع إنجاح مثل هذه التحركات، كونها مكون رئيسي بكافة الانتفاضات الشعبية إلى جانب غيرها من مؤيدي الفصائل الأخرى.

ولهذا رأينا أداءً مرتبكًا لإعلام السلطة مع جمعة الأقصى ففي حين حرصت على تجاهله بالبداية، ورأينا فضائية فلسطين تبث مبارايات كرة القدم يوم الجمعة وبرامجها الاعتيادية، إلا أن مجمل الإعلام الفتحاوي اضطر لاحقًا للمتابعة الإعلامية وإبراز ما حصل من مواجهات، لأنه لا يستطيع الدخول في صدام مع قاعدته الفتحاوية، بالإضافة لحرصه على ركوب موجة المقاومة (كالعادة).

ثانيًا، لا شك أن الوضع الملتهب في القدس المحتلة وتصدي شباب الحركة الإسلامية لمحاولات فرض تقسيم المسجد الأقصى زمانيًا بين المسلمين واليهود وجهود محمومة مبذولة من جهة حكومة الاحتلال وجهاز الشاباك والجماعات الصهيونية الدينية من أجل تنظيم زيارات شبه منتظمة لليهود إلى الأقصى كان له دور في تصعيد الوضع بالضفة.

حيث بلغ التصعيد ذروته قبل جمعة الأقصى بيومين في ذكرى "عيد العرش" اليهودي، ومليونية "الصعود للهيكل" التي دعا لها الصهاينة، فكان لهذا الجو دور في إعطاء جمعة الأقصى مصداقية وزخمًا شعبيًا.

ولهذا السبب بالذات رأينا شبه اختفاء للزيارات الاستفزازية اليهودية إلى الأقصى بعد يوم الجمعة، فالشاباك وحكومة الاحتلال لا يريدان وقودًا لأي حراك شعبي فلسطيني، وقد يقول قائل أن أعيادهم قد انتهت لكن أذكرهم بأن هذه الزيارات في الفترة الأخيرة لم تعد مرتبطة بأعياد اليهود، وكان التوجه نحو جعلها دائمة، وهو إيقاف مؤقت يهدف إلى امتصاص الغضب، وسرعان ما سيتم استئنافها بعد أن تهدأ الأوضاع على الأرض.

ثالثًا، شكلت عمليتي الخليل وقلقيلية في الأسبوع الذي سبق الجمعة دافعًا ورافعة معنوية للشبان، وكما يقولون النجاح يجر النجاح، فنجحت المقاومة المسلحة بجر المقاومة الشعبية إلى الميدان، وذلك بعد غياب طويل للمقاومة المسلحة عن ساحة الضفة (آخر عملية مسلحة معتبرة تعود إلى اليوم الأخير من الحرب على غزة أواخر عام 2012م)، وفي هذا مخالفة لكافة الثورات الفلسطينية منذ ثورة عام 1936م، حيث كانت المقاومة الشعبية تسبق المقاومة المسلحة.

وإن كانت عملية قلقيلية فردية التخطيط والتنفيذ (كما يبدو لحد الآن) وبالتالي نستبعد أن نقول أنه كان مخطط لها لأن تكون الشرارة المشعلة لجمعة الأقصى، فإن عملية الخليل المتقنة تضع سؤالًا حول إن كانت مقصودة لإشعال الميدان الشعبي أو أنها مجرد تقادير ربانية، ولا أحد يستطيع إعطاء جوابًا شافيًا حول العلاقة، لكن الأكيد أن نتيجة العمليتين هو إعطاء دافعية للحراك الشعبي.

خالد مشعل: إطلالة تلفزيونية بعد طول غياب
رابعًا، لا شك أن ظهور خالد مشعل على الجزيرة يوم الثلاثاء وتحذيره من المخططات التي تحاك ضد الأقصى، ودعوته لتكثيف الحضور والرباط في القدس والأقصى، ومن قبله تصريحات لقيادات من حماس مثل موسى أبو مرزوق الذي قال أن الضفة بحاجة لتمرد ضد الاحتلال، قد أعطى إشارات إلى مؤيدي حماس بأن يشاركوا بزخم في التحرك الشعبي.

وقد تلا ذلك الدعوة لحملة "من حقي أن أصلي في المسجد الأقصى" من جانب قيادات حماس في رام الله (حسين أبو كويك وجمال الطويل)، حيث ستنظم الجمعة القادمة مسيرة ضمن نشاطات هذه الحملة.

ولا شك أن دور حماس في الحراك الشعبي بالضفة الغربية يشكل معضلة معقدة، ليس فقط لأنها بعبع تستخدمه السلطة لإخافة الناس، بل لأن الحركة استنزفت من خلال الاغتيالات والاعتقالات بحيث نتج جفاف في القيادات الميدانية وضعفت قدرة الحركة على الانخراط في العمل الشعبي خلال السنوات القليلة الماضية.

وفوق ذلك تعاني كوادر الحركة وخاصة من الأجيال الأكبر سنًا من عقدة "ما فيش فايدة"، وقناعة أن لا شيء يصلح عمله في الضفة الغربية، ولا شك أن الخطاب الإعلامي للحركة خلال الأشهر الماضية قد استطاع القفز فوق القيادة المستنزفة والعقول المحبطة والوصول إلى الشباب الأصغر سنًا وإقناعها بالانخراط، لكنه يبقى انخراطًا منقوصًا كون العناصر الأكثر قدرة على التأثير وتحريك القاعدة الحمساوية ما زالت غائبة عن المشهد.

لماذا لم تتطور جمعة الأقصى إلى انتفاضة شعبية عارمة:


رغم المشاركة الواسعة النطاق وغير المسبوقة والتي شملت كافة مناطق المواجهة التقليدية (مثل مخيمات العروب وعايدة وقلنديا وشعفاط، ومدينة القدس، وقرى بيت أمر وعزون ونعلين وسلواد وبلعين، وضواحي القدس)، ومناطق أخرى تندلع بها المواجهات في مناسبات موسمية مثل مخيمي الجلزون والفوار وبوابة سجن عوفر وحاجز حوارة وقرى الخضر وتقوع ومنطقة باب الزاوية في الخليل، ومناطق أخرى دخلت حديثًا على خط المواجهة مثل قريتي سرطة وجيت وشارع جلجوليا جنوبي قلقيلية.

وكان نجاح أجهزة أمن السلطة في منع المسيرات والمواجهات محدودًا واقتصر على حاجز الجلمة في جنين (معقل فتح الحصين).

يمكن تلخيص الأسباب التي منعت تطور الأمور إلى انتفاضة شعبية عارمة بالآتي:

أولًا، حرص الاحتلال على سحب كافة أسباب التوتر وامتصاص الصدمة، فرأينا وقف الزيارات الاستفزازية للأقصى، وحرصًا على عدم استخدام الرصاص بشكل قاتل في المواجهات (واستعاضوا عن ذلك بحملة اعتقالات واسعة النطاق خلال الأيام الماضية تتم بصمت وهدوء).

الدمار الذي حل بمخيم جنين عام 2002م

ثانيًا، التجربة السيئة لانتفاضة الأقصى، وتحديدًا اجتياحات عام 2002م (عملية السور الواقي)، والتي دفع خلالها أهل الضفة ثمنًا غاليًا وكسرت شوكتهم، ونتج عنها تدمير كافة الأجهزة الأمنية، في مقابل عدم تحقيق أي إنجاز ميداني حقيقي بالضفة، ما زالت تلقي بظلالها على الكوادر التنظيمية والمجتمع الفلسطيني بشكل عام.

ربما نجد تغيرًا لدى الأجيال الأصغر سنًا والذين كانوا مجرد أطفال وقت الاجتياحات (جيل ما دون الخمس وعشرين عامًا) لكن الأجيال الأكبر وهي الممسكة بخيوط العمل التنظيمي والإعلام وتشكيل الرأي العام ما زالت غير مؤمنة بجدوى أي تحرك ضد الاحتلال في ظل موازين القوة الحالية، والكثير يستصعب فكرة العودة إلى إلقاء الحجر والزجاجة الحارقة بعد أن كانت المفخخات تهز الكيان الصهيوني، لذا وجدنا افتقار الحاضنة الشعبية الحقيقية القادرة على إبقاء زخم المواجهات.
المقاومة الفولكلورية: أقصى ما يمكن أن تقدمه قيادة فتح

ثالثًا، قيادة السلطة وفتح غير معنية بأي مواجهة مع الاحتلال، ولا تؤمن لا بمقاومة مسلحة ولا شعبية، فقط تؤمن بمقاومة فلكلورية ومقاومة فوتوشوب لكي تغسل مسؤوليتها أمام جماهيرها الشعبية.

وهي إن حرصت على عدم الصدام مع قواعدها الشعبية التي شارك جزء منها في جمعة الأقصى، إلا أنها لا تريد لذلك أن يتطور وتنفتح خطوط المواجهة وقد أرسلت شرطتها لملاحقة الشبان في الخليل وقلقيلية، وكما يبدو أنها عملت سرًا على إقناع القيادات الميدانية المشاركة بالاكتفاء بما حصل يوم الجمعة وعدم المواصلة.

رابعًا، بالرغم من حرص القيادة العليا لحركة حماس وقسم من قواعدها الشعبية (وخصوصًا صغار السن) على المواجهة مع الاحتلال، إلا أن قسم كبير من القيادات الوسيطة والميدانية وقسم من القواعد الشعبية، يشعرون بالخوف وعدم الرغبة في دخول مغامرة فاشلة كما ينظرون، وما زالت عقدة الخوف من الأجهزة الأمنية الفلسطينية والاعتقال لدى الاحتلال تتحكم بالكثيرين.

خامسًا، قلة أماكن الاحتكاك مع الاحتلال الصهيوني، فمنذ الانتفاضة الأولى حرص الاحتلال على الخروج من داخل المدن والقرى، وبناء طرق التفافية لتجنب الصدام والمواجهة مع الشارع الفلسطيني الغاضب، وتفكيك بعض الحواجز ونقلها إلى مناطق أبعد عن التجمعات السكانية الفلسطينية، وقد نجحت هذه السياسة بتقليل نقاط الاحتكاك إلى أدنى قدر ممكن، مما يعني عمليًا تحييد جزء كبير من مجتمع الضفة الغربية.


ولو تتبعنا خط المواجهات سنجده يمتد على طول شارع ستين (الذي يصل شمال الضفة بجنوبها)، حيث يهتم الاحتلال بهذا الخط الاستراتيجي ويملؤه بالمستوطنات ويشكل عصب مروري للمستوطنين كما أنه منطقة كثافة سكانية فلسطينية عالية، فمن حاجز حوارة في نابلس إلى سلواد في رام الله، ثم تقوع في بيت لحم ومخيم العروب وبيت أمر وحلحول في الخليل كلها مناطق تقع على طول هذا الشارع.

كما تشمل مناطق المواجهة أيضًا مدينة القدس وضواحيها التي تشمل نشاطًا استيطانيًا ضخمًا، وقرى محافظة سلفيت التي تشهد أيضًا نشاطًا استيطانيًا محمومًا، والقرى التي تقع عند جدار الفصل العنصري، ومدينة الخليل (بسبب وجود بؤر استيطانية داخلها).

شارع عابر السامرة الاستيطاني
يقطع فتيان قرية حارس عدة كيلومترات ليرجمو سيارات المستوطنين

وحتى هذه القرى والمناطق فغالبًا ما تجري المواجهات على أطرافها ومناطق خارجها، فمثلًا قرية عزون كان يمر خط المستوطنين من داخلها، فأنشأ الصهاينة طريقًا التفافيًا يبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن مركزها، مع ذلك يقوم فتية القرية (وأغلبهم لا يتجاوز عمرهم 18 عامًا) بقطع كل هذه المسافة مشيًا على الأقدام والمخاطرة بحياتهم في مناطق جبلية مفتوحة ومليئة بالأبراج العسكرية من أجل رشق سيارات المستوطنين على الطريق الالتفافي.

ليست هناك تعليقات: