الاثنين، 10 فبراير 2014

يحيى عياش بين الأسطورة والحقيقة


 
مرت علينا الشهر الماضي ذكرى استشهاد يحيى عياش، وقد تابعت ما كتب عنه، وأكثر ما كتب كان لتذكر الزمن الجميل الذي عشناه أيام عملياته الاستشهادية، وكعادتنا لا بد من المبالغة بمدح شهدائنا فما بالكم عندما نتكلم عن شخص جمع بين الشهادة والقيادة والريادة.

لكن ما استفدناه من إحياء الذكرى؟ وما الذي استعدناه من تلك "الأيام الجميلة"؟ وهل هي غير قابلة للتحقق كون الشهيد المهندس شخصية استثنائية لا تتكرر؟ وهل تغير الزمان والأشخاص والنفسيات حقًا؟


لعلي لا أبالغ بأن أحد الحواجز التي تقف بيننا وبين الاستفادة من تجربة المهندس يحيى عياش هو تحويله إلى أسطورة والمبالغة بوصف أعماله وأفعاله، بما يوحي للمتلقي أنه كان رجلًا خارقًا للعادة، ولعل تكرار جملة "لن يتكرر مثله"، تزرع في لاوعي الشباب أن لا يحاولوا السير على هذا الدرب فهم أقل منه.

الشهيد يحيى عياش بدأ ضمن صفوف الدعوة في مسجد قريته بعيدًا عن مراكز القرار والقوة، وفي صفوف الكتلة الإسلامية بجامعة بيرزيت والتي كانت مغلقة أكثر الوقت في بدايات الانتفاضة الأولى بحكم قرارات الحاكم العسكري الصهيوني، ولم يتلقَ إعدادًا خاصًا ليكون قائدًا أو حتى مقاتلًا عسكريًا.
 
وسجن في الانتفاضة الأولى لنشاطه غير العسكري بحركة حماس، وعندما انخرط بالعمل العسكري لكتائب القسام، وكان ما زال يحبو في بداياته، وكانت الكتائب سواء في غزة أو الضفة تعاني من شح عظيم في موارد السلاح والذخيرة، إلى درجة أن البندقية الواحدة كانت تتنقل بين جنوب الضفة وغزة كونها مشتركة بين الخلايا هنا وهناك.

ما أدخل يحيى عياش التاريخ هو أنه كان مبادرًا، لم يستسلم لواقع أنه لا يوجد سلاح أو ذخيرة، ولم يجد المبرر لنفسه أنه لا يوجد تشجيع ولا يوجد أموال ولا يوجد تدريب ولا يوجد ولا يوجد، بل بحث بنفسه بدون خبرة مسبقة، وطور المتفجرات من مواد تجارية موجودة في السوق، مثل الكبريت المستخدم في السماد الزراعي والأسيتون النقي وغير ذلك.

كانت مثل هذه المواد تستخدم قبل ذلك (وما زالت حتى اليوم) في تصنيع العبوات المحلية الصغيرة والتي تعرف بالأكواع (جمع كوع)، لكنه ارتقى بها وأدخل موادًا جديدة على خط الاستخدام، مثل ما عرف بمادة "أم العبد" والتي كانت أشد فعالية مما سبقها (طبعًا مقارنة بالمتفجرات التي تنتجها المصانع المختصة هي لا شيء)، وبدأنا بمرحلة السيارات المفخخة والاستشهاديين.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما تلا مرحلة عياش (1996م وما بعدها) شهدت تطورًا كبيرًا في حجم وقوة وفعالية المتفجرات، وفي حجم العمليات وفي عدد القتلى الصهاينة الذين كانوا يسقطون فيها، لكن يحيى عياش حاز قصب السبق، كان المبادر والأول، لم يكن يمتلك علمًا عجز عنه من بعده لكنه فتح الطريق والجميع سار من ورائه.

صورة الشهيد في مقتبل عمره
يحيى عياش وعلى عكس ما يشاع عن براعته الأسطورية في التخفي (وأغلبه مصدره صحافة الاحتلال التي كانت تحاول التبرير لفشل الاحتلال بالقبض عليه)، لم يتلقَ أي تدريب على التخفي، ومثلما قالت زوجته ومثلما قال من آواه من رفاقه لم يتنكر مطلقًا في زي حاخام (كما الأسطورة الشهيرة)، ودخل إلى غزة في شاحنة خضار مختبئًا أسفل الصناديق، وقبلها كان يتنقل من مكان لآخر مشيًا على الأقدام مختارًا الأوقات التي تخف فيها حركة الناس.

تميز العمل وقت الشهيد يحيى عياش بقلة الإمكانات (وبالضفة ما زال الوضع كذلك حتى اليوم)، وباضطرار العاملين في القسام إلى الارتجال في التعلم والعمل، وهنا تميزهم فهم الرواد الذين دخلوا الصحراء القاحلة وبدأوا بزراعتها، ومن الطبيعي أن لا تثمر الأشجار من اليوم الأول، لكن الأكيد أن من لحقوا بالرواد قادرين على أن يكملوا الطريق، ولا يجوز أن يتقاعسوا بحجة أنهم ليسوا مثل من سبقهم.

وإن كان هنالك اليوم غيابًا للعمليات الاستشهادية فمن الضروري التأكيد على عدة أمور:

أولًا: هي ليست غاية بل وسيلة في حرب استنزاف طويلة الأمد، فتوقفها في ظل وجود بدائل ليس بالأمر السيء.

ثانيًا: الاحتلال اتخذ إجراءات قاسية ومعقدة من أجل ضرب العمليات الاستشهادية ابتداءً من ملاحقة وتصفية مهندسي العمليات الاستشهادية خلال انتفاضة الأقصى، وضرب البنية العسكرية لكتائب القسام، مرورًا ببناء جدار الفصل العنصري وتصعيب عملية الدخول إلى فلسطين المحتلة عام 1948م، وانتهاءً بتقييد عملية دخول المواد التي يمكن استخدامها في تصنيع المتفجرات إلى الضفة وغزة، بعضها ممنوع بشكل بات وتام (مثل الكبريت الزراعي)، وبعضها عليه قيود شديدة، ومن الإجراءات المتخذة أن مصانع مواد التنظيف والأدوية في الضفة ملزمة بتقديم كشوف إلى أجهزة أمن السلطة بأسماء العاملين لديها وخاصة أولئك القادرين على الوصول إلى مواد كيماوية.

ثالثًا: في غزة كان هنالك البديل وهي الصواريخ والتي وصلت تل أبيب، وكما يقال هنالك ما يصل إلى ما بعد تل أبيب بكثير، لكن المشكلة في الضفة وهي كما أسلفت ليست مشكلة غياب رجل، بل مشكلة أكبر وأعم تحتاج لعقول مبدعة لتتجاوزها.
وبناء على ما سبق يمكن القول بأن الشهيد يحيى عياش لم يتلقَ تدريبات خاصة لا بالعمل العسكري ولا بالتخفي، لكنه كان مبادرًا وهذا هو المفتاح للتوفق في جميع مناحي الحياة وليس فقط في المقاومة، كن مبادرًا لا تنتظر الإرشادات ولا تنتظر البساط الأحمر، لقد ترقى يحيى عياش في العمل تدريجيًا ولم يصبح قائدًا من لحظته الأولى، ولم يطلب ذلك بل كان شديد التواضع.

وأخيرًا من الضروري الإشارة إلى أن الثغرة الأمنية التي أوصلت الاحتلال إلى يحيى عياش هي سعيه للتواصل مع أهله، بمختلف الطرق وهذه نقطة ضعف جميع المطاردين في كل مكان وزمان، وأغلبهم يعتقل أو يغتال بسبب ثغرة الأهل، ربما من الصعب أن يطلب منهم أن لا يتواصلوا مع أهلهم لكن أقل ما في الأمر أن يدرك كل مقاوم مقتل من سبقوه.

ليست هناك تعليقات: